مهرجان “عالم واحد” الدولي لوثائقيات حقوق الأنسان
في كل عام وفي مثل هذا الوقت ينتقل مهرجان “عالم واحد” لأفلام حقوق الأنسان من براغ عاصمة جمهورية التشيك ليحط رحاله في العاصمة البلجيكية بروكسل وتنتقل عروضه على عدد من الصالات في ارجاء العاصمة ما بين قصر الفنون وصالة عرض معهد غوته وصالات ممثلية جمهورية التشيك لدى الاتحاد الأوربي فضلا عن بضعة عروض خاصة في مقر البرلمان الأوربي .

المهرجان في عروضه المكثفة حمل معه في هذا العام برنامجا حافلا لأفضل 20 فيلما عالجت قضايا حقوق الأنسان حول العالم وطرحت أسئلة ملحة وجوهرية في استقصائها للظواهر وخوضها في تحولات الحياة الإنسانية. من الشيشان وكولومبيا الى فلسطين الى أفغانستان إلى أفريقيا إلى مصر تعالت صرخات الأنسان المأزوم في هذا العالم لتتبع جميع العروض تقريبا مناقشات مهمة خاضها مخرجو الأفلام مع خبراء واكاديميون وناشطون في مجال حقوق الأنسان .
فيلم الافتتاح :”العودة إلى المربع ” للمخرج بيتر لوم وهو من انتاج كندي نرويجي ، يراجع قضايا ومنعطفات الثورة المصرية ، فهو يستقصي حياة ما بعد الثورة من خلال شخصيات متعددة وشرائح وطبقات اجتماعية وكيف تمثلت الثورة في مفردات حياتهم وماذا غيرت فيها ؟ انهم اولئك التواقون لبديل أفضل لكنهم يبثون شكوى مركبة تتعلق بحياتهم ما قبل وما بعد الثورة ، ويتمثل المشهد في نزوع للبقاء والحياة تتنوع فيه هوامش المطالب صعودا وهبوطا .
مقابلات لشخصيات متعددة يقدمها الفيلم من دون أن يكرس وجهة نظر من ساهم بالثورة فعليا فقط بل يمضي إلى الشخصيات التي وجدت نفسها وجها لوجه في وسط التغيير وهي شرائح واسعة من الشعب المصري، يذهب الى ذلك المرشد السياحي في الأهرامات، الى سائق الباص الذي رفض امر الشرطة بطلب نقل السجناء من المتظاهرين ، امرأة اعتقل زوجها بسبب التظاهر لصالح الثورة ، شقيق احد المدونين على شبكة الأنترنيت وغيرهم كثير ممن يشكلون فسيفساء الشعب المصري وهي صورة واقع تتشكل ملامحه مابين الشكوى وبطء التغيير والتحول واشكاليات معيشية واجتماعية مركبة ومعقدة في بعض الأحيان مما انشغل الفيلم بتقديمه .
وفي الفيلم التشيكي “سباق باتجاه القاع” للمخرجين زابود كيدنو وفيت جانوشيك هنالك استقصاء لظواهر متفاقمة في المجتمعات الحديثة، ظواهر المدن التكنولوجية تلك التي بدأت بتغييب الأيدي العاملة ببديل آخر هو التكنولوجيا الزاحفة وفي وسط ازمات صنعتها البنوك وبحثها عن مزيد من الأرباح.
ويعرض الفيلم لتناقضات هذا المجتمع الصناعي – التكنولوجي وازماته المتصاعدة في أوربا خاصة، مستعرضا مواقف أرباب العمل والصناعيين والباحثين الاجتماعيين وقادة النقابات وحتى العمال البسطاء الذين يشعرون أنهم في مهب الريح ومن الممكن أن يصبحوا في الشارع بلا عمل.

ويركز الفيلم على ظواهر انسانية تتعلق بأصحاب المشاريع الصناعية الصغيرة وهم الأكثر عرضة للهزات في ميادين الاستثمار والمضاربات البنكية ويعرض بشكل حميم حالات محددة لعائلات اسهمت في تلك المشاريع الصغيرة بعدما بدأت من الصفر لتجد نفسها في وسط العاصفة وهو ما يعرضه الفيلم على وفق مسارات متعددة تتعلق بضرورة ان يصغي الكل الى الكل في وسط الأزمات الطاحنة التي تعصف باقتصادات العديد من الدول الغربية منها خاصة . اليوميات التي ينقلها الفيلم في مصنع للخياطة وقد تحول الى ممرات للأشباح و هجره عماله بسبب ضعف المبيعات في مقابل افتتاح مصانع شركات السيارات العملاقة سواء الأوربية أو الآسيوية والأموال الطائلة التي تضخها في مقابل الخواء والاضرار التي تتعرض لها المجمعات الصناعية الأصغر ..مشاهد وسط الصقيع والجليد لأناس يتظاهرون مطالبين بحقوقهم وكأن مشاهد الثلج والصقيع هي تعبير مواز لتجمد الحياة وصقيعها …المستهلكون الذين يبحثون عن بضائع ومشتريات بأقل الأسعار جعلت البضاعة الصينية مثلا تنتشر انتشارا مذهلا مع انحسار الإنتاج المحلي وخاصة ما تنتجه المصانع الصغيرة ذات رأس المال المحدود والتي تعاني من تقلبات السوق .
وبالرغم من أن الفيلم يعرض لواقع قائم في بلد بعينه إلا أنه في شموليته يروي جانبا من قصص ازمات مستحكمة وسائدة في بلدان اخرى شمالا وجنوبا ، شرقا وغربا وبسبب هذا القلق الجماعي والضرر الذي أصاب الجميع بدرجات متفاوتة نجد ان السؤال الذي كان بحاجة الى إجابة هو : ما السر وراء هذه التحولات والاضطرابات ؟ وسيأتي الجواب مباشرا : إنها البنوك الكبرى التي أسرفت في المضاربات في تقديم القروض التي لا أساس لها ولا سيولة تحكمها .
في فيلم “مدرستنا ” لثلاثة مخرجين وهو إنتاج أمريكي – سويسري يعرض لجوانب من حياة أقلية ذاع صيتها في شرق أوربا خاصة وهم أقلية الغجر او الروما لاسيما بعد حملة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا سركوزي الذي سعى الى اخراجهم من فرنسا، قصة انسانية لحياة اخرى قابلة للتحول ، الفيلم يروي حكاية ثلاثة اولاد من الغجر يتم نقلهم الى مدرسة بعيدة عن ديارهم ليجدوا انفسهم في وسط مجتمع آخر مجهول لا معرفة مسبقة لهم به وهنا تتجلى صعوبات الاندماج بين البيئات الاجتماعية المختلفة ممثلة في الطلاب الغجر الثلاثة واقرانهم من ابناء المدينة .وفيما يشبه البحث السوسيولوجي تتمثل مشكلة الاندماج / عدم الاندماج على كل المستويات تقريبا، على مستوى الطلبة انفسهم ومستوى ادارة المدرسة التي تبدو عاجزة عن فعل شيء لغرض ادماج اولئك التلاميذ في متابعة يومية لشخصيات تبحث عن انتماء وعن وجود ما في مجتمع يحاولون التشبث به .
ولعل ما يلفت النظر في تلك المعالجة الفيلمية هي المتابعة التفصيلة لحياة الشخصيات الأكثر واقعية وهي تعبر عن افكارها وهواجسها ومعاناتها في اطار نسيج اجتماعي متكامل .
يعتمد الفيلم في مساحة واسعة منه على قراءة الواقع المعاش للشخصيات كما هو مع تلك التفصيلات التي تتعلق بردود الأفعال التي يعبر عنها اولئك الأولاد الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم من هذا العرق او هذه الأثنية .
قراءة جمالية لتوثيق حي، هي خلاصة من الخلاصات التي يمكن الخروج منها لدى مشاهدة هذا الفيلم، وثيقة تقدم خلاصات مهمة لواقع اجتماعي مأزوم ويمكن ان ينطبق على أية شريحة اجتماعية تبحث لنفسها عن وجود وعن أفق ودور في هذه الحياة وهو ما يعبر عنه اولئك التلاميذ بعفوية، انهم في وسط دافع ان يندمجوا في واقع جديد لكن ذلك لا يكفي لكي ينسلخوا من كينونتهم السابقة وهو ما أجاد مخرجو الفيلم في استقصائه والتغلغل فيه على اكثر من مستوى …