النقد العالمي معجب أقل: كياروستامي بفيملين

بينما احتفى مهرجان “كان” بجديد المخرج الإيراني عبّـاس كياروستامي «كواحد في الحب» عارضاً إياه بين أفلام المسابقة، تم إطلاق فيلمه السابق «نسخة مُـحتـلّـفة» (حسب العنوان الإنكليزي) أو “نسخة طبق الأصل» (بترجمة العنوان الفرنسي) على أسطوانات جديدة في مطلع هذا الشهر. إنها ليست المرّة الأولى التي يتم خلالها إطلاق هذا الفيلم المصنوع سنة 2010 والذي اشترك في دورة كان في ذلك العام، على أسطوانات، لكن الطبعة السابقة حملت الفيلم وحده، في حين هناك بعض المعلومات والإضافات على الطبعة الجديدة.
لقد رفع الإعلاميون والمهرجانيون والنقاد الغربيون، وبعد ذلك بعض العرب، المخرج عبّاس كياروستامي إلى مصاف جهابذة الإخراج حتى من قبل أن يترك البلاد ونظامه في العام الماضي. في كنف ذلك النظام، كان كياروستامي يصنع أفلاماً لا تناوئ السُـلطة بل السياق الجماهيري المعروف للسينما السائدة. ومع أن هذا ليس كافياً لاعتبار من يقوم بذلك مخرجاً فنّاناً، إلا أن الغرب، وبعده بعض العرب كما أسلفت، حضن كياروستامي على أساس أنه مبدع ينتمي الى رهط السينمائيين المؤلّفين لمجرد أنه ينفّذ فيما يفكّر به. لا اعتباراً جدّياً ما إذا كان ما ينفّذه فيه أخطاء في القواعد السينمائية0
في أفلامه السابقة، خط المخرج خطوطاً على رمال مهنته. أمسك بالكاميرا وصوّر، ثم أمسك غيره بالكاميرا وصوّره. صنع أفلاماً طويلة لمجرد أن مشاهدها لا تنتهي وهذا غير ما يصنعه مخرجون كباراً من فئة تاركوفسكي وأنجيليبولوس او أنطونيوني. وقف أمام الكاميرا في “عشرة” وسرد عليناً درساً ألّفه في السينما محا فيه جهود سواه معتبراً أن طريقته هي الطريقة. جيّر فيلماً عن أطفال الأيدرز في أفريقيا، حمل اسم «أ ب س أفريكا»، لصبح فيلماً عن كيف “اتصلت بي الأمم المتحدة لتطلب مني أنا صنع فيلم عن الأيدز وكيف ذهبت الى هناك وكيف اشتغلت وتعاملت وكم رق قلبي حيال أطفال الأيدز”. 

ما ينضوي «نسخة مُـحلّـفة» عليه هو أن مؤلّفاً يصل متأخراً على قاعة فيها نحو خمسين شخصا في بلدة إيطالية في مقاطعة توسكاني ليلقي خطاباً بالإنكليزية (فهم الإيطاليون الإنكليزية او ما فهموا) فتتسمّـر الكاميرا عليه وهو يتحدّث بما يعتبره الخطيب والفيلم معه مهمّـاً بينما هو ليس كذلك. الى القاعة ذاتها، تدخل جولييت بينوش التي وصلت أيضاً متأخرة واتجهت الى الصف الأول وجلست على كرسي محجوز (لعلّه للمؤلف). لقطات طويلة عليه وأخرى عليها وعلى ابنها ثم تكتب رقم هاتفها وتتركه عند الجالس بقربها لإيصاله الى المؤلّف0

عباس كياروستامي

المؤلّف واسمه جيمس (ويليام شيمل) يقصد الغاليري الذي تديره إيلي (بينوش) والكامن تحت الأرض وتلتقيه ويقترح عليها أن تأخذه الى حيث يمكن أن يرتشفا فنجاني قهوة. توافق. تودّع قطّتها وتغلق المحل وتأخذ صاحبنا في رحلة في السيارة الى بلدة أخرى، يسوقان، يصلان، يمشيان، يدخلان غاليري آخر. يستمعان، يدخلان مقهى. يخرجان من المقهى. يدخلان مطعماً. يخرجان من المطعم. يسيران، يجلسان على درج وهكذا. كل ذلك والحوار بينهما لا ينقطع مع تطوّر واحد في كل هذا السياق المضجر وهو أن ايلي أخذت تعتبر، على حين غرّة ومنذ أن اعتقدت امرأة تدير المقهى رقم واحد، أن جيمس زوجها، أنه زوجها بالفعل. والمؤلّف، من دون سبب لا ظاهر ولا باطن، يماشيها ويستجيب لهذا الاعتقاد ويعاملها كما لو كانت زوجته من خمسة عشر سنة وكما لو أن إبنها الذي بقي في البيت هو إبنهما المشترك0
خذ مثلاً المشهد الذي يجلسان فيه في مطعم وكيف يتذمّر المؤلّف من الخدمة قبل أن تبدأ. ينادي النادل المشغول الذي -من دون الاكتراث للقطة له تظهر شخصيّته- يطلب من جيمس الانتظار لكن هذا يطلبه الآن. يسأله زجاجة خمر. حين تعود “الزوجة” من الحمّـام وقد تزيّنت، يفاجئها جيمس بالتجاهل وبثورته على النادل الذي أعطاه خمراً لا يعجبه واختفى. كما صوّر العبقري كياروستامي المشهد، فإن لا مبررات لأي مما يقع. لا مبرر لتجاهل النادل تأمين الخدمة، ولا مبرر أن يخلو المطعم من سواه، ولا مبرر لثورة الزوج، خصوصاً بعدما دخل المطعم ويده فوق كتف ايلي برقّة، ولا مبرر لتقطيع اللقطات على هذا النحو. لكن الفيلم بأسره لا مبرر له وليس فقط ذلك المشهد0

الفيلم الجديد الذي عرضه كياروستامي في “كان” في هذه الدورة، «مثل واحد في الحب» هو، في نظر العديدين هنا، أسواً. حكاية يابانية الجغرافيا حول الفتاة الجميلة التي يتم إرسالها إلى بيت بروفسور جامعي عجوز لأنها تعمل بائعة هوى في الليل لتتدبّر تكاليف دروسها في النهار. العجوز يجد نفسه متورّطـاً في خلاف بينها وبين خطيبها الذي يعتقد خطأ أنه جدّها. حين يكتشف الخطيب أن العجوز ليس كذلك يثور ويهدده. ينتهي الفيلم بحجرة يرميها، من أن نراه، على نافذة غرفة العجوز الذي يتراجع ويسقط. انتهى الفيلم.
من استطلاعات الرأي التي انتشرت في هذه الدورة يجد المرء أن فيلم كياروستامي الأخير هذا نال حظـاً أقل من القبول النقدي من سابقه. معظمه لم تثره مسألة تصوير فيلم لا يخلو من الخطأ في أكثر من مكان (أخطاء سخيفة الحدوث لكنها دالّـة) لكن المشكلة الأساسية التي تعكس فشل هذه الخطوة هو أن الفيلم الجديد إذ تقع أحداثه في اليابان فإنه لا يحمل أي سبب ثقافي او درامي لذلك. ليست هناك هوية يابانية لما يقع بل أن الحكاية قد تقع في جنوب أفريقيا او في كندا إذا شئت لها.


إعلان