مخطوفون لا يسمع استغاثاتهم احد
طاهر علوان
صورة جامدة لامرأة نحيفة وشاحبة تقف متكئة على الحائط ، صبيان صغيران منشغلان بلعبهما الصامت ، عجوز تنظر في الفرغ غارقة في التفكير ، شاب تنتشر من حوله الأوراق والخطابات وحيث يكتب مزيدا منها ، ذلك هو المشهد الافتتاحي الذي يعرض واقع اسرة ما وهي تعوم في متاهة هذا الزمن وتعيش في وسط ازماتها الطاحنة ، الحياة من حولهم جميعا شبه ميتة ومشلولة بسبب اختفاء الأب / الزوج / الأبن ، اختفاء قسري وغير مبرر وغير محسوب ولكنه نقطة في سلسة غياب وتغييب اشخاص اخرين يرصدهم هذا الفيلم الوثائقي الذي حمل عنوان “برزخ ” في تتبعه رحلة اختفاء المواطن “حمدان مسطايف ” من الشيشيان من اخراج “مانتاس كفيداافيكوس ” والفيلم هز منظمات حقوق الأنسان وطاف العديد من المهرجانات الدولية ليلقي الضوء على تلك الحقائق الصادمة .
.انها قصة عالم مخفي هو ذلك العالم الكابوسي الذي تعيشه تلك البلاد بعد حروبها الطاحنة وخاصة حرب العامين (1994-1996) التي جسدت الخط الفاصل بين الحياة والوجود الحي وبين الغياب و لطالما شغل العقل الإنساني في بحثه في هذه العلاقة الجدلية الملتبسة مابين الحياة والفناء ، لكنها في واقع الأمر تتعدى المعطى الفلسفي المباشر في هذا الفيلم الى طرح اسئلة ملحة واساسية في جدوى هذه العدوانية المستشرية هناك باتجاه ازاحة الواحد الآخر في صراع شرس بلا هوادة واما في ارض هذه البلاد فعمليات الاختطاف والتعذيب والإخفاء متواصلة بشكل يومي حتى الساعة وكلها تدرج في اطار الحوادث الفردية وتصفية الحسابات ولهذا تسكت عنها السلطات المدعومة من موسكو بشكل مباشر تاركة تلك الوحشية تفتك بذلك المجتمع .
يرصد الفيلم نموذجا انسانيا مؤثرا لتلك الزوجة الحزينة والوحيدة التي ماتنفك وهي تلصق الأوراق على الجدران في شكل اعلانات مكتوبة بخط اليد طالبة من اي شخص لديه معلومات عن زوجها المختفي لكنها تعود لا تلوي على شيء من رحلة الشقاء اليومية وكذلك يفعل الشقيق الذي يرسل بالخطابات تلو الخطابات الى السلطات دون جدوى مطالبا بالتحقيق في سر هذا الاختفاء وحيث السيناريو يتكرر في كل مرة :” اشخاص يرتدون ملابس سوداء يتعقبون شخصا ما ويختطفونه ويختفي اثره الى الأبد وفيما السلطات تتفرج على تكرار القصة ” .

مشاهد طريفة اخرى حيث يلجأ الناس الى الخرافة في وقت الأزمات ، قارئات الطالع العجائز ، ينثرن الحصى امام تلك العائلة المكلومة ويشرحن كيف تم اختطاف حمدان مصطفوي واين هو الآن وهل هو حي ام ميت …وكل قارئات الطالع تؤكدن انه حي يرزق.
يغوص الفيلم في سوسويولوجيا ذلك الوجود الإنساني ، وجود بسيط وبلا اهداف عظيمة ولا طموحات كبيرة سوى تلمس السبل الى العيش بسلام لكن الصدمة البصرية تقع عندما تكتمل ملامح الصورة لشهود حقيقيون تم اختطافهم واسعفهم القدر فبقوا على قيد الحياة.
مشاهد ليلية للولوج في اقبية سرية كانت بالأمس ملاعب رياضية مغلقة فتحولت الى اقبية تعذيب وسجون سرية والشاهد يتجول عارضا اين اخفي واين تم تعذيبه ويري اذنه المقطوعة وحيث عملية قطع الأذان من ابسط بديهيات التعذيب في الشيشان تحت سلطة وحشية تفتك بالأبرياء حتى يذكر الشاهد ان الحاكم قديروف هو الذي ينظم حفلات التعذيب ويتفرج على صرخات الضحايا مستمتعا بقطع آذانهم .
هذه الوحشية المستشرية وبشهادات الضحايا تقدم مجتمعا يعيش جراحاته صامتا واما صراخاته فلا يسمعها احد ، ذلك ما يؤكده باحثون في الشأن الشيشاني تحدثوا في ختام العرض وكلهم يؤكدون تلك التراجيديا المريرة العاصفة التي تتفاعل فيها صراعات الثروة والسلطة على ارض تلك البلاد التي تزخر بثرواتها وموقعها الأستراتيجي ولهذا تم سحق كل اشكال الاستقلال عن موسكو سحقا عنيفا لا هوادة فيها حتى الساعة.
وبسبب الوباء الذي استشرى على مستوى العالم ممثلا في تنظيم القاعدة والتكفير والأنتحاريين فقد صار من السهل اليسير اطلاق صفة ارهابي على كل من يتصدى مطالبا بحقوقه وابسطها الحد من عمليات الخطف والتعذيب والاختفاء المنظمة في مجتمع يعيش رعبا حقيقيا من ذلك الكابوس اليومي .
وفي واقع الأمر ان المرء يعيش صدمة حقيقية وهو يشاهد هذا الواقع الذي لايسمع عنه احد ولا تتحدث عنه منظمات حقوق الأنسان الا قليلا ، واقع يكتم الامه وجراحاته وحيث مازالت آلام الأبادة التي تعرض لها شعب بأكمله لم تندمل جراحاتها بعد.
الشهادات الواقعية تشكل خطا صاعدا في مسار الفيلم وكلما تشعر ان ايقاع الأحداث والوقائع يتباطأ تبرز الى السطح قصة جديدة تضاف الى تلك التراجيديا التي لاتنتهي : الزوجة التي تتنقل عبر الأحياء الشيشانية التي تتباطأ الحركة فيها وتلصق الأوراق يداعبها الأمل في العثور على اثر ما للزوج تقدم صورة لمدينة تأكل ابناءها وتشتتهم وتجعل الرعب يضرب العائلات لايعلمون شيئا عن شكل المستقبل الذي ينتظرهم .

المفصل الآخر الأكثر اهمية في الفيلم هو استخدام فكرة “البرزخ” والحياة البرزخية المعروفة اسلاميا على حياة الغائبين والمغييبين والمخطوفين في تخريج ملفت مفعم بالدلالات الفلسفية العميقة فالأشخاص الصامتون في غروب البلاد وحيث يتعالى صوت الأذان في الأرجاء يحيلون الغائبين الى حياة برزخية مجهولة بكل ماتعنيه من انقسام مابين الشعور بالحياة والموت ومايلبث المخرج ان يجد حلا اخراجيا آخر بتغلغله من خلال مشاهد في وسط عواصف بحرية لتعميق الأيحاء الفلسفي بفكرة الاختفاء وهو في واقع الأمر بدا حلا منطقيا وموضوعيا اضاف بعدا اخر الى تلك القصة الفاجعة التي تتعلق بهؤلاء الضحايا .
الحياة البرزخية للمخطوفين الذين يتشبثون بالحياة فيما عائلاتهم تترقبهم وتتخيلهم وهم يتأرجحون مابين الحياة والموت هي خط مواز اخرج الموضوع من حيزه الجنائي الى مدى اوسع واكبر الى كون ذلك العالم البرزخي للمخطوفين هو عالم يجسد حقيقة كينونة انسانية تعيش ازماتها الطاحنة وتخليها عن اخلاقياتها من خلال ما تعرض له المخطوفون الأحياء من فضائع .
نموذج ” حمدان مصطايف” الذي كرس له الفيلم احداثه في عرض وقائع تلك التراجيديا ماهو الا مثال وعينة واحدة من نماذج وحالات بالمئات والألوف عن الذين تتكرر مأساتهم في تلك البلاد وهو ما أكده الباحثون المعنيون بهذه الفظائع المسكوت عنها .
ولعل ما لفت النظر هو تلك المشاهد الأقرب الى الفوتوغرافيا ، المشاهد الصامتة للأم والزوجة والأطفال وهم شبه متجمدون في مشاهد تتكرر ساهمين يتطلعون الى الفراغ الذي يمثله البرزخ المجهول الذي احتوى ذلك الشاب الذي تنتشر صوره في المكان باسما مشاركا الآخرين حياتهم .
ليس هنالك في هذه التراجيديا الفيلمية الوثائقية ابلغ من العرض السوسيو- فلسفي لتداعيات الواقع المأزوم الذي تم تعميقه بتلك الدلالات الفسلفية والمعاناة الإنسانية القاسية .
……………….
من عروض مهرجان “عالم واحد” الدولي لأفلام حقوق الأنسان 2012