وثائقي بريطاني عن الثورة اليمنية
“الثوري المُتردّد” حسم أمره ومضى مع ثورته!
قيس قاسم ـ السويد
بعد أيام قليلة على اندلاع “الربيع اليمني” وخوفاً من نقل المراسلين الأجانب حقيقة ما يجري في شوارع العاصمة وساحاتها، أصدرت السلطات قراراً بترحيلهم جميعاً من البلاد، وعلى الفور. غادر كل المراسلين اليمن، إلا واحداً توارى عن أنظار السلطة، وقرر البقاء سراً لتسجيل تطوراتها، وبسبب علاقة الصداقة القديمة التي تجمعه بأحد أصحاب الفنادق في صنعاء، لجأ اليه ليختفي عنده، منتحلاً هذة المرة صفة سائح جاء عبر وكالة السفريات التي يديرها صديقه الى اليمن في زيارة قصيرة وليس كصحافي أجنبي. هكذا رتب المراسل والسينمائي البريطاني شون ماكليستر اقامته “السرية” عند اندلاع الثورة اليمينة بعد حصوله على فيزا سياحية عن طريق الرشاوى. لم يخطر بباله أول الأمر، ان يشتغل فيلماً عن صديقه قيس، صاحب الفندق، فهذا أصلاً لم يكن متعاطفاً مع الحراك الشعبي والى حد معين كان ضده، فقد أثرت الأحداث سلباً على تجارته، فلا سياحة في زمن الإضطرابات ولهذا كَثُرت ديونه وبسببها كان يعاني من مشاكل زادتها “الثورة” ثقلاً عليه. لم يكن قيس موضوعاً مقترحاً في ذهن ماكليستر، ولكنه كان مضطراً بسبب مصاحبته له وقتاً طويلاً وبدافع من “غريزته” السينمائية الى تصوير جولاته وسهراته معه، فهو زبونه الوحيد تقريباً وقيس دليله المؤتمن في المدينة المنتفضة. صَورَهُ في كل مكان؛ في البيت والشارع وفي مكتبه الفارغ، ومع الوقت صارت الكاميرا المحمولة مثل شخص ثالث أخذ على عاتقه تسجيل يوميات “المراسل السري” وصديقه اليمني في زمن الثورة.

اليوميات الشخصية، وبالتدريج، أخذت في التحول الى يوميات ثورة. الشخصي تداخل بالعام، حين انتقل قيس تدريجياً الى صفوف الثوار المعارضين للرئيس علي عبد الله صالح، منهياً تردده الأول دون أن يشعر، أو بعبارة أدق لم يدرك أن الظروف الخارجية وقوة منطق الثورة سحبته من موقعه وزجته في خضم حراكها، هكذا شأن ملايين من البشر حين يدخلون الثورات بعد تردد وخوف وعنوان الفيلم، “الثوري المتردد” يوحي بهذا، ويحمل في طياته الكثير من هذة الدلالات، وبالتالي فنحن أمام فيلم تسجيلي تحليلي، اجتماعي، كونه يأخذ شريحة مصغرة من طبقة صغار التجار ويسجل تطورات موقفها المتردد في باديء الأمر وكيف تم حسمه فيما بعد، الى جانب امتلاكه درجة عالية من درجات ملاحقة نمو الشخصية والحدث، فماكليستر لم يذهب الى ساحة التحرير في صنعاء مباشرة ويسجل اندفاع الناس وتصادمهم مع رجال السلطة من جيش و”بلطجية” بل أراد تسجيلها بعين رجل يمني مصالحه الإقتصادية بشكل من الأشكال كانت في سلة السلطة، التي بدأت تهتز وقد ينكب كل ما فيها من إمتيازات وفي هذة الحالة وبالحس المنفعي العادي يبدأ الأنسان بزعزعة موقفه الأول المؤيد لها بالكامل فيسمح لنفسه قبول مناقشة آراء وأفعال الطرف الآخر الذي كان يرفض الإعتراف به باديء الأمر. هكذا نقل لنا “الثوري المتردد” موقف قيس. في بداية الشريط كان يقول بالانكليزية الواضحة “إذا رحل الرئيس ستسيل دماء، وهذا ما لا يريده صالح. أنه يريد السلام”. ثم كان يلوذ بالصمت حين يسأله المراسل البريطاني: هل أنت خائف؟ كان يخفي خوفه الحقيقي من حرب أهلية قد تنشب في أي لحظة فاليمن يملك سلاحاً أكثر من عدد نفوسه بثلاث مرات وإذا ما دارت الحرب فلغة السلاح هي التي ستُسمع وتَطغي.
بعد تردد وإلحاح صديقه الصحافي يقبل قيس الدخول الى ساحة الحرية لأول مرة فيصاب بالدهشة فلا “القاعدة” ولا الملتحون يسيطرون عليها، كما كان يظن، والناس فيها يمنيون عاديون مثل الذين يعرفهم يعبرون وسطها عن موقفهم الرافض للسلطة. في كل زاوية فيها كانت تجري فعاليات وعروض تسودها روحاً فكهة، ساخرة. لقد شاهد مسارح شعبية وسمع أغاني ثورية وفولوكلورية يغنيها الصغار والكبار، فزاد الأمر من مخاوفه وبدأ بترتيب حساباته. فمن جهة ضغطت عليه الظروف الإقتصادية فإقتنع بأن السلطة لم تعد “البقرة الحلوب”. لقد نضب حليبها، أو شارف على نهايته، ومن جهة ثانية لمس وجود طرف جديد في طريقه ليأخذ دورها لا محالة، لهذا صار يزور الساحة يومياً وصار جزءا من نسيج المحتجين. لقد زال تردده وحل محله شعور بأن ثورة قادمة، يقودها يمنيون شجعان يضحون بأنفسهم من أجل الحرية والخلاص من ديكتوتارية دامت أكثر من ثلاثين عاماً أفقرت اليمن وأرجعته الى عقود من التخلف.

ثمة تطور جديد، سجله “الثوري المتردد” دفع بقيس الى طرف الثوار، وهذة المرة دون حسابات منفعية ضيقة، تمثل في مطاردة الشرطة اليمنية السرية له، وسؤالهم عن السائح الأجنبي الذي كان برفقته وما إذا كان صحافياً؟ أسئلة زادت من قلقه وقربته دون أن يشعر الى عامة الناس المتضررين من سلوك أجهزة أمن السلطة القمعية، التي كان يسمع بها من قبل ولا يصدقها. “الجمعة الدامية” بدورها دقت المسمار الأخير في نعش “تردده” ورسخت حوادثها الرهيبة قناعاته الجديدة، عندما رأى بأم عينية المجازر التي إرتكبها أعوان الرئيس مستخدمين فيها المدافع والراجمات وحتى الطائرات ضد متظاهرين سلميّن عزل، أدرك وقتها أن كلام رئيسه عن السلام وعدم رغبته في القتل كلام فارغ، كشفت الأحداث كذبه ومسحت دماء القتلى كل حرف فيه. لقد صار قيس جزءاً من الثورة يحمل الجرحى الى المستشفيات الميدانية ويهتف مع الهاتفين منهم، بل وفي أحد المرات عندما تعذر على صديقه المراسل الأستمرار بالتصوير بسبب كثافة الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجيش عليهم صاح به: “هات الكاميرا لأصور أنا بنفسي”. هل تحول قيس الى صحافي أم أن حرصه على عدم تفويت أي لقطة أو حتى “فريم” واحد دون أن يسجل ما يجري أمامها من قتل ضد أخوته اليمنيين دفعه الى ذلك؟. لقد صار قيس الشاهد والمشارك.
في النهاية غادر شون ماكليستر الى وطنه ليكمل ما قام به، لقد شكره قيس كثيراً لتوفيره فرصة المشاركة في ثورة بلاده، وطلب منه نقل وقائعها الى العالم كله، أما علاقته بزوجته فتحسنت بعد أن أنجبت له طفلة، كل ما يتمناه لها الآن، العيش بسلام في بلد خال من الدكتاتورية. هكذا يُنهي “الثوري المُتردّد” قصة رجل يمني تردد في باديء الأمر، ثم قرر المضي مع ثورته حتى النهاية.