مهرجان الإسماعيلية، والسينما التجريبية الغائبة

صلاح سرميني ـ باريس

في مهرجان كان، كيف يمكن اللقاء ـ على سبيل المثال ـ مع متابعٍ يقضي أيامه “الكانيّة” خارجاً من صالةٍ داخلاً إلى أخرى، وهي حالة الناقد السينمائي المصري “أمير العمري” الذي التقيته صدفةً.
في المرة الأولى، كان يُسرع خطواته كي لا يفوته موعد عرض فيلم ما، وفي الثانية، يتقدم ببطءٍ في الصف المُخصص للصحفييّن، والنقاد الحاصلين على بطاقة اعتماد زهرية، وكانت تلك الدقائق كافيةً فقط لكتابة رقم تلفونه الفرنسي، وفي الثالثة، صادفته في أحد الأجنحة العربية التي كنت أقضي فيها معظم أوقاتي بسبب مهماتي التنظيمية في مهرجاناتٍ عديدة.
هذه المرة، لن يفلتَ مني، فهو ـ كما قال لي حينذاك ـ يمتلك بعض الوقت قبل مشاهدة أحد الأفلام.
ـ دعنا إذاً نحتسي قهوةً في أحد الأجنحة، ونتحدث قليلاً عن الدورة المُقبلة لمهرجان الإسماعيلية.
انتظرته كي ينتهي من لقاءٍ، وانتظرني كي أنتهي من آخر، وجلسنا في أحد أركان الجناح المغربي.

قبل أن أبدأ، نبهني :
ـ هل قررتَ المجيء إلى الإسماعيلية، أم لا ؟ إذا كنتَ تفكر بالإعتذار، فإنه من الأفضل إعلامنا سريعاً كي نُحوّل الدعوة إلى شخصٍ آخر.
فهمتُ بأنه تخلى تماماً عن القائمة القديمة الخاصّة بالصحفييّن، والنقاد، والإعلامييّن التي كانت تستخدمها الإدارة السابقة، وتتضمّن العديد من الأشخاص المُتحمّسين للسياحة المجانية، وأشياء أخرى، والذين، باعتقادي، ساهموا في إفساد سمعة المهرجان بحضورهم، وجهة النظر هذه ليست نقداً متأخراً، فقد أوصلتها في أكثر من مناسبةٍ إلى أصحاب الشأن، وخاصةً السيدة الفاضلة “عبلة سالم”، التي أتمنى بأن لا ينساها، أو يتناساها مهرجان الإسماعيلية بإدارته الحالية بغضّ النظر عن أيّ كشف حسابٍ نقديّ، إيجابيّ، أو سلبيّ للدورات السابقة، وأعتقد، بأنه من المفيد في هذه الأوقات الثورية التقليل ما أُمكن من تظليل صفحات الماضي، والاهتمام أكثر بتلوين الحاضر، والمستقبل.
أثناء اللقاء مع “أمير العمري”، والحوار لم يبدأ بعد، لم أكن قد حسمت رغبتي في حضور المهرجان، أو الاعتذار.
ضمنياً، أُشارك زملاء آخرين رغبتهم بالتعرف عن قربٍ على المهرجان، ومعايشة التطورات الفنية، والتنظيمية التي تطمح إليها الإدارة الجديدة.

خلال مسيرته النقدية الطويلة، كان “أمير العمري” حاداً في كتاباته، صارماً في انتقاداته، قاسياً في ملاحظاته، وهنا، سوف أستعير من بعض حدّته، وقليلاً من صرامته، ومقداراً من قسوته، وهي صفات تُبشر بدورةٍ مختلفة، ولكن، سوف أناقش هنا بعض التوجهات الجديدة للمهرجان، أو خطته البرامجية العامة، والتي تحدث عنها “أمير العمري” في حوارنا العابر، المُقتضب، والناقص.
كان سؤالي الأول مُتحايلاً، فظاً رُبما :
ـ من وجهة نظرك، ماهي الأمور السلبية التي تغيّرت، أو تسعى إلى تغيّيرها ؟
ـ نعم، هناك أشياء كثيرة أريد تفاديها، أو التخلص منها، في البداية تماماً، وعندما بدأتُ النقاش حول مسيرة المهرجان الجديدة مع المعنييّن، وفي مقدمتهم صديقي المخرج “مجدي أحمد علي” مدير المركز القومي للسينما، قرأنا اللائحة القديمة بعناية، وكانت أولى الخطوات التي فكرتُ بها هي استبعاد “مسابقة الأفلام التجريبية”،….

آخ، وكـأنها ضربةُ على الرأس، مُوجعة، ومُدوّخة.
لم يكن هدفي من الحوار التعليق المباشر على كلّ ما كان يقوله، وكنتُ أدوّنه بسرعة.
بالنسبة لي، ومن خبرتي في المهرجانات، وخاصةً المُتخصصة منها، أيّ القريبة من طبيعة مهرجان الإسماعيلية، والمُهتمّ أكثر بالسينما التجريبية، أعتبر تلك الخطوة التي أقدم عليها “أمير العمري” خطأ كبيراً أصابتني بالدهشة عندما قرأتُ عنها يوماً في الوسائل الإعلامية العربية، وها أنا أسمعها منه شخصياً، وأجده يتباهى بها، ويدافع عنها بثقةٍ، وكأنها إحدى التغييرات الثورية في مسيرة المهرجان.

بدايةً، دعونا نستمع إلى مُبرراته :
ـ تحتاج الأفلام التجريبية إلى مهرجانٍ مستقلّ، وقد خطرت لي هذه الفكرة منذ عشر سنواتٍ، ولم تتحقق، يمتلك الفيلم التجريبيّ جمالياتٍ مختلفة لا يصحّ بأن نضعه جنباً إلى جنب مع المسابقات الأخرى، وكانت تنشب خلافاتٍ بين النقاد المصريين أنفسهم حول ما هو تجريبيّ، وما هو غير تجريبيّ، كنت شاهداً على بعضها، ولهذا استبعدتها إيماناً مني بأنها تحتاج إلى عددٍ من المُتخصصين، والاهتمام بها بشكلٍ خاص بعيداً عن الزحام الموجود.
انتهى كلام “أمير العمري” حول هذه النقطة بالتحديد.
حسناً،….
أشاركه ـ من حيث المبدأ ـ بضرورة تأسيس مهرجاناً خاصاً بالسينما التجريبية، متى، أين، وكيف ؟ هذه تفاصيل تخصّ من يعنيه تبني هذه المبادرة .
ولكننا نعرف بأنّ النوايا الطيبة وحدها لا تكفي، حيث لا يوجد أيّ مبرر يُعيق تحقيق تلك الفكرة/المشروع، أكانت تظاهرةً مستقلة، أو مهرجاناً متخصصاُ، وكان بإمكانه العمل مبرمجاً، أو مستشاراً لمهرجانٍ عربيّ ما، وإنجاز فكرته تلك.
ومنذ أسابيع، قرأتُ عن تعاونٍ بين مهرجان الإسماعيلية، وكليرموـ فيرا (كان هذا المهرجان الفرنسي شريكاً أساسياً لمُسابقة أفلام من الإمارات في أبو ظبي منذ بداياتها، أيّ قبل عشر سنواتٍ تقريباً)، وعند قراءة الخبر، تساءلت:
ـ كيف يتعاون مهرجان الإسماعيلية مع مهرجانٍ لا يعرف أيّ واحدٍ من فريق الإدارة الجديدة عنه شيئاً، وعلى حدّ علمي، لم يتابعه أحدٌ منهم، وفي نفس الوقت، يتمّ إلغاء “مسابقة الأفلام التجريبية”، بينما هي واحدةٌ من المسابقات الرئيسية في مهرجان كليرموـ فيرا (تحت عنوان “مختبر”).

كنت أتمنى من “أمير العمري” بأن يصبر قليلاً قبل الإقدام على تلك المُبادرة (استبعاد مسابقة الأفلام التجريبية)، على الأقلّ، حتى يلتقي بالسيدة “ناديرا أردجون” (وأعتقد بأنها في لجنة التحكيم) إحدى المشرفين على مهرجان كليرموـ فيرا (يعمل فريق هذا المهرجان بطريقةٍ جماعية).
كانت “مسابقة الأفلام التجريبية” في مهرجان الإسماعيلية منفصلة تماماً عن المسابقات الأخرى، ومن الطريف بأنها تأسّست في عام 2005 أيّ بعد سنتيّن من تخصيص تظاهرة كبرى عن السينما التجريبية في الدورة الثانية لمُسابقة أفلام من الإمارات في أبو ظبي عام 2003، وعُرضت الأفلام بالتوازي مع برامج أخرى، وخاصةً مسابقة الأفلام الإماراتية، ومع ذلك صمدت، وأثارت ردود أفعالٍ، ونقاشاتٍ مفيدة، فكيف لنا أن تخيل بأنها سوف تُسبب زحاماً أكثر مع أفلام أخرى تُعرض في مهرجان الإسماعيلية البالغ من العمر 15 دورةً ؟
رُبما أتفق مع “أمير العمري” إذا افترضنا بأنّ المسابقات الدولية الأخرى تتضمّن أفلاماً تجريبية يمكن أن تثير قلق أعضاء لجان تحكيم قليلي الخبرة في تقيّيم مثل هذا النوع من الأفلام، ولكنها كانت مسابقة منفصلة تماماً (بغضّ النظر عن طبيعة الاختيارات فيها، أكانت تجريبية حقاً، أو نصّ نصّ)، لأنني بعد الدورة الأولى لهذه المسابقة (عام 2005)، التقيت في باريس مع مخرج فرنسيّ شارك بفيلمه، وقال لي بأنه لا يعرف لماذا تمّ اختياره في هذه الفئة بالتحديد، لأنه ليس فيلماً تجريبياً، واعترف بأنه لا يفهم أصلاً بالسينما التجريبية، ولا يعرف عنها شيئاً.
وانطلاقا من تلك الواقعة الطريفة، وغيرها، أتفهم تماماً حساسية “أمير العمري” من الخلافات التي كانت تنشب بين النقاد المصريين في لجان الاختيار، أو خارجها، حول ما هو تجريبيّ، أو غير تجريبيّ.

نديرا ارجون عضوة هيئة مهرجان كليرمو-فيرا

وإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فهي ليست مشكلة الأفلام التجريبية، وصعوبة تصنيفها، أو تحديد طبيعتها، ولكن، خيبة التذوق السينمائي للنقاد المصريين أنفسهم، وفقدان قدرتهم على استيعاب “أفلام مُغايرة” بدأت مع ظهور “السينما” نفسها.
وتُعتبر حالة الغموض التي يعيشها هؤلاء حول السينما التجريبية مبرراً كافياً لتطوير ذائقتهم السينمائية، وهو أمرٌ ينطبق على المشهد السينمائيّ في مصر عامةً، ويكفي ما أشاهده يومياً من أفلام قصيرة، روائية، وتسجيلية متواضعة المستوى، تعكس نقصاً خطيراً في الموهبة.
لا أستغرب فكرة “الاستبعاد” هذه، فقد شاركتُ في نقاشات إحدى جلسات ليالي مهرجان الخليج السينمائي، وسمعتُ المخرج “مجدي أحمد علي” نفسه يشير إلى خلافٍ حول ما هو تجريبيّ، وغير تجريبيّ.
والسؤال الأهمّ، هل تفتقد مصر بطولها، وعرضها إلى ناقدٍ واحد لا يعرف التميّيز بين فيلم روائي تقليديّ، وآخر تجريبيّ؟
إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فهي مصيبةٌ حقيقية.
من خلال متابعتي لكتابات “أمير العمري” النقدية، أعرف بأنه لا يريد أن تكون المهرجانات “سلة أفلام”، أيّ مكاناً للعرض فقط.
حسناً، الأفلام التجريبية هي الوحيدة التي يمكنها إثارة نقاشاتٍ لا تنتهي، وزعزعة أفكار متراكمة حول جماليات، ومفردات العمل السينمائي.
سوف يلتقي “أمير العمري” حتماً بالسيدة “ناديرا أرجون”، والتي أتوقع، بأنها لو عرفت بأن المهرجان تخلى مرحلياً، أو نهائياً عن “مسابقة الأفلام التجريبية”، فإنها، بلا شكّ، سوف تُحدثه مطوّلاً عن تطوّر مهرجان كليرمو ـ فيرا، وتُذكرنا جميعاً، بأنه في عام 2013 سوف يصبح عمر مسابقاته الثلاث (الوطنية 35 عاماً، الدولية 25 عاماً، والمُختبر 12 عاماً).
ومع ذلك، رُبما أُبالغ، أو تنقصني الخبرة المهرجاناتية، ورُبما هذا المهرجان العتيد(كليرمو ـ فيرا)، وكلّ المهرجانات التي تتوازى فيها المُسابقات، أو تتقاطع، تسير في الطريق الخاطئ.


إعلان