“رسائل من إيران”.. شهادات مخيفة وبشائر ثورة
في فيلمه الوثائقي “حنين الى الضوء” يعزز مخرجه التشيلي باتريسيو غوزمن فكرة جوهرية تفيد بأن جرائم الفاشية والأنظمة الديكتاتورية لا تُنسى، وأن صمت الضحايا المؤقت والذي قد يبدو إستسلاماً وقبولاً بالهزيمة في لحظة ما، سرعان ما يتحول الى غضب ماحق يفزع جلاديهم. فالجنرال بينوشيه لم يخطر بباله يوماً، بعد انقلابه على حكومة ألليندي عام 1973 وتصفية مؤيديها من غالبية الشعب، أن ضحاياه سينهضون ثانية. لم يحسب أن الذاكرة والحفاظ عليها وعلى ديمومتها سيشكل له هذا العبء والخوف، قبل وبعد إدانته، فأمهات الضحايا مازلن يبحثن عن جثث أبنائهن في الصحراء التشيلية، فالناس لا تريد العيش من دون ذاكرة ولا تريد نسيان ما جرى دون معاقبة الجاني. الأمر نفسه يتكرر في التجربة الإيرانية، كما تُرينا المخرجة الفرنسية مانون لويزو في وثائقيها “رسائل من إيران”. فأمهات ضحايا النظام مازلن، وبعد مرور أكثر من سنتين على قمع “الثورة الخضراء” يزرن المقابر وينظمن الاحتجاجات ويطالبن، بصوت مسموع رغم كل القمع، بالقصاص من قاتلي أولادهن.
“رسائل من إيران”، هي في حقيقتها شهادات شجاعة، سجلتها المخرجة مانون خلال وجودها هناك ولمدة عامين عقبتا ثورة 2009، لشخصيات إيرانية تعرضت للسجن والتعذيب أو ما زالت تقوم بدور تحريضي وتنظيمي سري ضد السلطة، وبدورها شكلت قوة تلك الشهادات نواة وثائقيها وعمادها الإسلوبي، الى جانب ما توفر عندها من تسجيلات أرشيفية سواء كانت منشورة على “اليوتيوب” أو أخرى شخصية أغلبيتها أُخذت بالتلفونات المحمولة وما زال أصحابها يحتفظون بها، تفضح تفاصيلها ممارسات رجال الشرطة وذراع الحرس الثوري المتين، مهم تنظيم “الباسنج” في قمع المحتجين، وتعذيب السجناء منهم، والتي تحاول السلطة الإيرانية وبكل ما أوتيت من قوة التكتم عليها ونفي أي وجود لحراك شعبي ضدها، غير أن ما نقله التسجيلي الذي صور بسرية تامة يكشف الكثير ويعطي صورة عن طبيعة الحراك الذي أخذ أشكالاً “محلية”، من بينها تحول المقابر الى مراكز تَجَمُع وَتنظيم لتحرك آخذ في الاتساع..

النساء يلعبن دوراً مهماً فيه لأسباب كثيرة؛ ربما حالة الأم الثكلى والشجاعة بارفين فهيمي تفسرها، فالسلطة تعجز رغم كل قمعها من منعها ومعها كل الثكالى من الذهاب الى المقابر والبكاء على أبنائهن، وترينا الكاميرا المخبأة كيف استغلت الذكري الثانية لوفاة ولدها زهراب لترفع صوتها عالياً ضد قتلته وتحرض النساء الأخريات على المطالبة، ودون كلل، بالقصاص من المتسببين في موت أحبائهن خلال مظاهرات عام 2009.
تفاصيل الشريط تكشف الكثير من الحقائق من بينها أن النساء شكلن جزءا من حركة منظمة، تلتزم السرية وتستغل كل مكان لنشر أفكارها والتحريض على الثورة ولكن دائما تحت يافطة المطالبة بالكشف عن القتلة. في المقابل يوفر اجتماعهن في أماكن خاصة بهن ضمانة نسبية لعدم كشف تحركهن، مثل صالونات الحلاقة والتجميل، الخاصة، ومن شهادات اللواتي التقت بهن المخرجة وكاتبة السيناريو، يتضح الميل الحاد لاستمرار الثورة وتغيير النظام على غرار الربيع العربي الذي كان له تأثير معنوي في الحراك الجاري، والمُعبر عنه بقوة في نشاط طلبة الجامعات الذين شكلوا رأس الحربة والقوة الأكثر اندفاعاً في مواجهة السلطة، وفي لقطات مأخوذة عن بعد يظهر فيها أحد الطلبة واقفاً خلف منصة وأمامه حشد من زملاء له يستمعون الى ما يقدمه من براهين على الدور الذي تقوم به قوات “الباسنج” في تعذيب الطلبة والتحقيق معهم وكيف تم تسجيلهم زوراً كطلاب في الكليات والمعاهد وهم عنها بعيدون كل البعد. والحقيقة التي يكشفها الوثائقي تبين حجم التضحية المقدمة من قبل الطلبة كونهم وبمجرد التحقيق معهم يُمنعون من دخول الجامعة ويُفصلون منها هذا إذا لم يدخلوا السجن.
ما يعطي مصداقية لشغل مانون، أن الكثير من الذين التقتهم تعرضوا بعد أسابيع من تصويرهم الى الخطف أو السجن، كالسيدة التي سجلت كلمتها في المجلس البلدي، وطالبت فيها بمعرفة الحقائق المحيطة بمقتل ابنها ثم اختفت بعد أيام على التسجيل، لهذا ذهب الوثائقي إلى توثيق تجارب المعتقلين في الزنزانات الإيرانية الرهيبة والتي تثير في النفس الخوف والهلع، تسريب معلومات عن عوالمها الرهيبة يعرض مسربها الى الموت، وشهادة الطبيب الخاص بسجن كاهريزاك، رامين بوراندارجاني مثالاً، فبعد شهادته أمام البرلمان الإيراني عن الظروف المخيفة التي يعيشها السجناء هناك ورفضه المشاركة في “مسلخها البشري” اختفى من الوجود والسبب الرسمي المعلن لاختفائه كان تعرضه ل”ذبحة صدرية” حادة.

من يظن أن الحراك الجماهيري قد توقف بعد قمع ثورة 2009 خاطئ وفق ما سجلته كاميرا مانون، فالكثيرون في الشعب الإيراني لا يُفوّت مناسبة إلا ويخرج فيها متظاهراً، والتسجيلات تعطي انطباعاً بدوامها وتكرارها غير المنقطع، فأغلبيتها تبدأ صغيرة ثم سرعان ما تُهاجم لتعود وتتشكل ثانية وثالثة إنها أقرب الى لعبة “القط والفأر” المشاركون فيها واثقون بقادم الزمن الذي سيُحْسم فيه الصراع لصالح الشعب حين يأخذ النضال شكلاً أبعد من حدود هذه “اللعبة” التي يشبّهونها بالتمرين الأخير على إنطلاق الثورة. بالمظاهرت والاعتصمات وبالتكتيكات الأخرى مثل؛ الهتاف بالشعارات المنددة بالنظام مع كل وقت من أوقات الصلاة، لتعلو أصواتهم المتداخلة مع أصوات الأذان معلنة عن وجودهم القوي في كل مكان من الوطن، تتعزز القناعة بالتغيير. حماسة الإيرانيين، لم تنضب بل زادت مع بدء الثورات العربية وشهادات الكثيرين منهم أكدت قناعتهم بالمستقبل وأن يوماً قريبا آت لا محالة سيتحقق فيه حلمهم الثوري، كما حدث في تونس ومصر وغيرها لهذا تسمعهم اليوم يهتفون “في الأول كان مبارك وبن علي والآن جاء دور نجاد”!. قد يكون هذا أكثر من هتاف، إنه الوعيد بالثورة القادمة كما جاء في رسائل إيرانية كثيرة نقلها وثائقي فرنسي من هناك، من البلد المنغلق.