الدين كموضوع جمالي
-1-
اعتنت السينما منذ بداياتها، وبشتى أنماطها، بتيمة المقدس سواء على مستوى الأفلام الروائية أو الوثائقية، بل صار التخصص في بعض المجالات الدينية كلاسيكيا في الأدبيات السينمائية كما هو الحال بالنسبة للأفلام الإنجيلية مثلا “Films bibliques”.. هكذا تناولت الأفلام اللاهوت المرتبط بالديانات التوحيدية (اليهودية، المسيحية، الإسلامية، وكذا الوضعية (البوذية…)، وغيرها.. كما اهتمت ببعض القضايا الميتافيزيقية كالملائكة والجن.. أو بالصراعات الداخلية الحاصلة داخل الديانة الواحدة (الصراع الكاتوليكي البروتستانتي).
ما معنى أن يكون الدِّين موضوعا أثيرا للسينما؟ ما الجماليات المرتبطة به؟ كيف يمكن تناوله من خلال فيلم وثائقي؟
-2-

حاول المخرج المغربي نور الدين التلسغاني مقاربة تلك الإشكالات من خلال فيلمه الوثائقي الطويل: “Ma religion est faite” ، وهو شريط يمكن اعتباره فيلم شهادات “Film de témoignage” بالنظر إلى حجم الآراء التي انفتح عليها ضمن مجال مكاني مغاير يسمح، إلى حد كبير، بحرية الاعتقاد؛ إذ تَمَّ التصوير بمدينة ستراسبورغ الفرنسية التي تعتبر بؤرةً تتعايش وتتصارع فيها الديانات والمعتقدات والمذاهب والحساسيات والتقليعات والآراء والرموز…
ركز الفيلم أثناء التصوير على بعض التفاصيل المشتركة بين الديانات كالصلاة، والخشوع، والقراءات المقدسة، والأصوات، واستعمال بعض الأكسسوارات كالسُّبْحة والورود والبخور والشموع مما يشير إلى كونية هذه الممارسات والطقوس التي تجعل من الإنسان كائنا ميتافيزيقيا يرفعه الغيب إلى مستويات روحية قد توحده أو تفرقه.
واجه الفيلم إشكالية الدين من زاويةٍ حاولت أن تنطلق من فكرة تعايش الأديان والمتدينين، وإشاعة ثقافة الحوار بين الشعوب. قادتنا كاميرا المخرج التي كانت متحركة وديناميكية إلى رصد الاختلاف والتعدد الثاوي في العقائد والنفوس، والذي لا يبتعد أصحابه عن تكريس الكليشيهات المرتبطة ببعض الديانات، والتي تنم عن خلفية إيديولوجية أو عن جهل، فقد صرح بعض المُسْتَجْوَبِين بأن الإسلام، مثلا، مرتبط بالإرهاب والتطرف.. وصرح البعض الآخر بأن البوذية ليست دينا وإنما موضة أو تقليعة.. واعتقد البعض بأن الدين لا يهمه مدعيا الحياد أو العيش بدون ارتباطات ينسجها مع المواضيع الميتافيزيقية المطلقة.. وذلك، ربما، ما جعل أحد الحاخامات يُعَرِّف الدين “Religion” استنادا إلى الفعل الفرنسي “Relier” [رَبَطَ] المشتق من الأصل اللاتيني “Religare” الذي يشير إلى التجميع واستعراض الشيء بعناية للدلالة على سند التقوى الذي يربط المؤمن بالله. وفي نفس السياق، هناك من يرجع أصل الدين إلى الفعل اللاتيني “Religio” الذي يحيل إلى كل ما يربط ويجمع ويصل…
انطلاقا من ذلك يصبح الدِّين ذلك الرابط الذي يجمع الناس حول ما هو مقدس أو غيبي أو مطلق أو متعالٍ وفق منظومات اعتقادية ودغمائية، أو استنادا إلى ممارسات شعائرية وأخلاقية. وَضَّحَ الفيلم أن الإنسان يعتنق الدين بدافع أخلاقي، أو نتيجة لتَبْكِيت الضمير، أو الحيرة.. وذلك ما ينعكس على شخصية الفرد، فيتحول الدِّين، بذلك، إلى منهاج أو فلسفة في الحياة كما يظهر بجلاء من خلال ما جاء في الفيلم الوثائقي.
-3-
بدأ الفيلم بطرح إشكالية الخلق مفسحا المجال لتصورات كثيرة جاءت على لسان أناس اعتنقوا الإسلام، ومتدينين مسلمين، ورجال دين يهود وبوذيين ومسيحيين؛ في مقابل أناس غير متدينين، وفنانين من حساسيات مختلفة: مخرجون، مصورون فوتوغرافيون، موسيقيو الشارع، تشكيليون.. اختلفت وجهات النظر وتباينت، فهناك من سار وفق التصور الديني الذي يشير إلى سرمدية الكون وإلى خالقه الذي سبق الخلق، والذي لا يمكن أن يشمله الفناء؛ وهناك من اتبع التصور العلمي الذي يُرَجِّح نظرية الانفجار العظيم “Le big bang” التي تحاول أن تخلص العالم من سطوة الغيب، وتفسره تفسيرا ماديا يسعى إلى فهم العلاقات المتحكمة في ظواهره.. بعيدا عن فكرة الكَاوُوس التي تركز على أن الفراغ، كان، هو السائد والسابق عن كل شيء بما في ذلك الضوء.
لم يتوقف النقاش عند ذلك الحد، بل تشعب كي يمس قضايا جوهرية في حياة الإنسان كالموت والحياة والمصير، إضافة إلى ما يتعلق بالممارسات والعقائد والطقوس المرتبطة بالدين، فقد أظهر الفيلم حجم الاختلاف الحاصل حول المفهوم وما يرتبط به، والذي يمكن أن نلخصه فيما يلي:
– الدين مجرد خيالات وأوهام…
– الدين إرث ثقافي من المعتقدات اللاعقلانية…
– الدين حقيقة وتجربة إنسانية باطنية تتجلى من خلال إيمان طافح وجِدِّي وصادق…
– الدين ظاهرة معقدة يصعب فهمها…
نستنتج من خلال وجهات النظر تلك أن الدين مسألة تاريخية لا تكاد تفارق مختلف الممارسات الإنسانية كالفن والسياسة والقانون.. فهو حاضر بشكل تطوري، متزايد ومؤثر، في حياتنا اليومية الأمر الذي يجعله في خضم السِّجَالات البشرية الكبرى وخاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المقدس والمدنس.

-4-
يتبين أن المخرج لم يدخل غمار هذا المنجز دون معرفة أولية بالدين عامة، وبالديانات الكبرى خاصة، فقد طرح إشكاليات الدين والتدين من خلال ثلاثة محاور أساسية لا يمكن أن تستقيم أية ممارسة دينية بدونها، وهي:
– المعتقدات والممارسات الدينية: ركز الفيلم على أهمها في المسيحية واليهودية والإسلام والبوذية مع الإشارة إلى اللاَّدِينِيِّين…
– الإيمان أو ما يصطلح عليه بالمشاعر الدينية: قدم الفيلم بعض الثوابت العقدية لدى مختلف المتدينين موضحا أسس الإيمان عندهم…
– وحدة المؤمنين داخل جماعة واحدة: يقدم الفيلم المسجد والكنيسة والمعبد كأمكنة مقدسة لالتقاء المؤمنين، وممارسة الطقوس والشعائر الدينية…
سعى الفيلم، انطلاقا من الديانات الكبرى في العالم، إلى أن يقدم للمتلقي مفهوما شاسعا للدين، وذلك باعتباره جمّاع الأفكار والمعتقدات والمشاعر والممارسات التي تحدد علاقات الإنسان بالله، وبكل ما هو مقدس، فهو ينبني على المشترك بين أعضاء كل جماعة مؤمنة، مثلا: الكتب المقدسة، الشعائر، الطقوس، الأسرار، التنظيم، الالتزام بالقيم، تطبيق الأوامر والامتناع عن النواهي.. وهي مسائل تأتي إما عن طريق الكتب المقدسة، أو الأنبياء، أو الحكماء (بودا مثلا)…
-5-
أوضح الفيلم بأن الموضوع الديني ليس مجرد قضية ترتبط بالأفراد فحسب، وإنما تقع في صميم اهتمامات الجماعات، فالدين يفرق بين جماعة المؤمنين وغير المؤمنين، ويرتبط أشد الارتباط بما يخافه الإنسان كالموت التي اعتبرها البعض راحة، والبعض خلودا، والبعض فيصلا بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى، والبعض تجددا أو خلقا متجددا.. لكن، مهما اختلفت التصورات والاعتقادات فقد مال المخرج إلى إنهاء فيلمه بطريقة فنية تكرس اللاَّيَقِين لدى المتلقي أكثر مما تزيح الحيرة عن قلبه، وذلك عبر مزجه لعدة أجوبة متداخلة: أصبح الكل وسط جَلَبَة معتمة تتداخل “أصواتها – أجوبتها”، وكأننا أمام دفق من الكلام اللانهائي!
تُمَثِّل الشاشة المظلمة ما يشبه الكهف المنغلق الذي تختلط فيه أصوات الناس.. نهاية تشبه القيامة المتخيلة، لحظة مظلمة (كَاوُوسِيَّة)، لا يقينية، تميل إلى الظلام وكأن أصحابها يقبعون داخل القبور: لكل منا حقيقته المتعالية التي يأخذها معه بعد الموت البيولوجي الذي يطاله…
إذا ما عدنا إلى فكرة الظلمات والظلام في الخطاب الديني فغالبا ما تحيل على الجهل والجهلاء، وعماء البصيرة، وأصحاب النار، والمصير السوداوي الذي ينتظر الكفار والعصاة، ومن طبع الله على قلوبهم.. وغير ذلك من الصفات السلبية. أما اللون الأسود فيعني انتفاء الألوان، وهو يشير في بعض الثقافات إلى الحزن والكآبة والخوف والشر.. وما دون ذلك من المشاعر والأفكار التي يمكن أن تسيطر على بعض التعبيرات الموصوفة، غالبا، بالسوداوية…

أعتقد أن إنهاء المخرج نور الدين التلسغاني فيلمه “Ma religion est faite” بالسواد تلخيصٌ مجازيٌّ لما جاء في مختلف خطابات العينات التي منحها فرصة التعبير عن فكرة الموت، فقد أقر المُسْتَجْوَبُون بأنها حقيقة ثابتة، وهي جزء من الحياة لأنها تسير بالموازاة معها، مع إشارة بعضهم إلى أن الإنسان يفضل الموت عندما “تَسْوَدُّ الحياة في وجهه”!
إذن، يرتبط السواد بالمعاصي، وامتحان المخلوق من طرف الخالق، والحزن، والهَجْر.. فهو لباس الرهبان، والشيعة.. وغيرهم من الإخوانيات الدينية وغير الدينية كما نشاهد في أفلام جماعات مصاصي الدماء وعبدة الشيطان…
-6-
راهن الفيلم منذ البداية على نسج جماليات بصرية مفارقة ارتبطت بالعينات التي تعاقبت على الحديث؛ إذ اختار المخرج، عبر آلية المونتاج، أن يقارن بين عالم ميتافيزيقي وآخر دنيوي غارق في الماديات؛ وبين رجال الدين و”رجال الدنيا”؛ بين الأماكن المقدسة والأخرى المدنسة.. وذلك ما خلق التباين “Le contraste” اللازم لرسم ملامح الصراع الذي يخلق عنصر التشويق الفيلمي الذي إذا خلا منه أي فيلم وثائقي أو روائي يصبح دون قيمة فنية وفكرية…