أسطوانات : شكسبير في “كوريولانوس» لا زال ماثلا
محمد رُضا
لا تفتأ السينما تعود إلى القاص وليام شكسبير تستوحي من أعماله كلّـما أرادت أن ترتفع عن مجمل ما تتعاطاه السينما المعاصرة من شؤون وقضايا- او بكلمات أخرى، مجمل ما لا تتعاطاه من شؤون وقضايا أيضاً على اعتبار أن العديد من الأفلام الحالية لا تسعى لطرح مواضيع ونقاشات ولا حتى أساليب ومدارس فنيّـة.
“كوريولانوس”، الذي ينطلق على أسطوانات الدي في دي هذا الشهر، هو آخر هذه الإقتباسات المنتجة وكذلك من بين أقل مسرحيات وليام شكسبير انتقالاً الى الشاشة، لكنه كباقي أعمال الكاتب المُهيمن للحين على الأدب الغربي الكلاسيكي، فإن “كوريولانوس” في الوقت ذاته عملاً تراجيدياً يمضي بعيداً في تشريح النفس الواحدة وعواطفها المتشرذمة بين العقل والعاطفة وبين المنطق وغيابه وبين فعل القتال لمبدأ وفعل القتل كإنتقام. فيلم فاينس (الأول له كمخرج) يحتوي على هذه العناصر بوضوح ويُثير، كما المسرحية، البحث في التاريخ. كل ما في الأمر من اختلاف، أن بحث شكسبير في هذا النطاق تعامل والزمن الغابر له، فهو كتب عن تراجيديا بطلها جايوس ماركوس كوريولانوس الذي عاش في القرن الخامس الميلادي (كتب شكسبير هذه المسرحية ما بين 1606 و 1608) في حين نقل المخرج هذه الأحداث الى عالم اليوم غير عابئ بغياب المبررات.
مثل محاولة المخرجة الأميركية جولي تايمور عندما أقدمت على اقتباس عمل آخر قليل الظهور على الشاشات هو «تيتوس» (1999) فألبسته ثياباً وهموماً تمزج ما بين التاريخ والعصر الراهن، يقوم المخرج فاينس بهذه النقلة بين الزمانين محافظاً على الكنه اللغوي والأدبي والأجوائي للمسرحية من ناحية وضامّاً إليها الطرح الزمني الأقرب (مطلع القرن العشرين) لأجل أن تعمد الصورة إلى المزج والربط لتأكيد المفهوم من أن ذلك العمل وطروحاته إنما يعيش بيننا اليوم كما عاش في الفترة التي وضع فيها شكسبير عمله.
تقع الأحداث في روما حيث تهدد المجاعة المواطنين نتيجة استحواذ العسكر على المؤن لصالح الجهد الحربي. تقوم المواطنة تامورا (جهد ملحوظ من المغربية لُبنى أزبال) بقيادة المحتجّـين، لكن القائد العسكري كايوس كوريولانوس (رالف فاينس) لا يلقي بالاً حيال المطلب معتبراً أن العسكر هم أكثر من المدنيين حاجة للمؤونة. وفي موقفه، وعلى نحو واضح ازدراء للعامّة من الناس الذين يعتبرهم كوريولانوس، في خطبة له، غير جديرين بالرعاية أساساً. يصرف كوريولانوس الوقت والجهد لموقعة عسكرية ضد جيش عدو يقوده توليوس (جيرارد بَتلر) الذي يعتبره كوريولانوس خصماً أكيداً ومنذ سنوات. كوريولانوس متزوّج من ?رجيليا (دور صغير نوعاً لجسيكا شَستين) لكنها تنأى بنفسها عن السياسة مكتفية بمراقبته من بعيد وتاركة مصيره لوالدته المتحكّمة ?وليومينا (?انيسا ردغراف). لكن كوريولانوس يضطر للهرب من روما وإجراء مهادنة مع عدوّه توليوس سائلاً إياه توحيد الجهود للهجوم على روما. هذا لا يمنع من أن مصالحتهما سياسية محدودة الأثر والفترة، وأنهما سيتنازلان في نهاية الأمر كعدوّين.
هذا تشخيص لحكم العسكر استمدّه المخرج من الكاتب الأعجوبة شكسبير ومنحه ظروف العالم المعاصر (الحاضر والسابق بقليل) معلّقاً على فاشية الأنظمة وسلطويّتها وأفقها الضيق. فاينس يصنع فيلماً يريد طرح ذات المسائل السياسية والإجتماعية التي شكّلها شكسبير كأرضية صراع في مسرحيته تلك، وهو (فاينس) ينجح في الإتيان بالمسببات، فالفيلم لا يزال يتحدث عن جوانب لصراع دام وأحد هذه الجوانب اقتصادي بين من يملك ومن لا يملك، لكن الجانب الذي يطغى، وعن صواب، هو متى يعترض القائد الذي يحاول دخول السياسة طريقه بنفسه لأنه يشعر بأن ثأره لعدوّه يأتي في المرتبة الأولى فيفقد صوابه، ومن ثم حياته، في سبيل اندفاع جلّه عاطفي؟.

فاينس نقل الأحداث كما وردت في المسرحية، لكنه بنقله لها زمنياً أمد الفيلم ببعد جديد. الماثل ليس تراجيديا شكسبيرية الملامح بقدر ما هو فيلم معارك وحروب يمضي بعيداً في عنف المواقع. ما يحفظ للفيلم عنفوانه هو أن المخرج لا يغفل متابعة شخصيته الرئيسية، كوريولانوس التي يقوم بتشخيصها بنفسه، ومحاولاته التي تنطلق أولاً من فصل نفسه عن السياسة، بعد انتصاره ضد عدوّه تالوس (جيرارد بتلر) ثم من قبوله بمنصب سياسي قبل أن يمضي في محاولة الانتقام من عدوّه ذاك ثم تلبّد تلك الرغبة حين يجد لزاما الانضمام إليه في حربه ضد المصالح السياسية قبل أن ينتهي وإياه في منازلة أخيرة.
يخرج فاينس مشاهده بمطرقة هاوية على الأبصار والآذان والأدمغة. ليس لديه وقت للتفنن، لكن عمله في الوقت ذاته ليس رديئاً، وإن كان يبحث لنفسه عن ناصية أسلوبية بصرية أفضل لا يستطيع تأمينها. لكن هناك شخصيات قويّة في تشكيلها النفسي والفني وفي تصرّفاتها. كذلك فإن الإبقاء على النص الشكسبيري من دون تغيير (بنفس قاموس مفرداته وتعابيره غير المستخدمة اليوم) يمنح العمل تميّزاً آخر من ناحية، وباعثاً على قدر من الانفصام في المرامي كما لو أن فاينس يريد أن ينجز التاريخ والحاضر في الوقت ذاته. الأداء بمفردات شكسبيرية يختلف كثيراً عن الأداء في أي عمل آخر. هنا على الممثل أن يكون مرتاحاً مع اللغة ذات المفردات الخاصّة ومن الأفضل له أن يكون خبيراً مسلّحاً بسنوات من التدريب المسرحي. في هذا النطاق، نجد أنه في الوقت الذي تمثّل فيه السيدة ردغراف دورها ببراعة واقعية فائقة، فإن جسيكا شستَين لا تقل عنها تلقائيّة على الرغم من الفارق الكبير سنّاً وتجربة بين الاثنتين. جيرار بتلر المعروف بأدواره البعيدة عن هذا النوع من الأعمال، نجده ممتزج جيّداً فيه كما الحال مع رالف فاينس الذي يوأم عمليه (وراء وأمام الكاميرا) بقدرة مدوّية مع اختلاف أنه وراء الكاميرا كان يحتاج إلى أسلوب توغّل في الأحداث لا تتحه اللكنة الهادرة للفيلم. لكنها قد تكون رؤيته للمسرحية التي يجب احترامها في كل الأحوال.