“أطفال الثورة”: علائق ملتبسة بين الثوري وأطفاله
قيس قاسم ـ السويد
أولريكه ماينهوف وفاساكو شيغينويو إمرأتان يتذكرهن العالم جيداً بسبب دورهن الإستثنائي في حركتين ثوريتين مسلحتين، ظهرتا في سبعينات القرن الماضي. الأولى كان لها الفضل الكبير في تأسيس “جماعة بادر ماينهوف” الألمانية والثانية عرفت كواحدة من بين أكثر أعضاء منظمة “الجيش الأحمر” الياباني حماسة وتضحية. إمرأتان ربما يتذكرهن العالم حتى اللحظة، حين يتطلب الأمر مراجعة تاريخهن السياسي وعلاقتهن بمفهومي التطرف والإرهاب، لكن، وفي كل الأحوال، هل هناك من يسأل عن مصير أولادهن وأين انتهوا بعد أن غابت صورهن عن المشهد السياسي والإعلامي؟ من هذا المنظور المنسي يعالج المخرج الايرلندي شين أوسولفين مصير أولاد ماينهوف وشيغينويو في وثائقيه المثير للجدل “أطفال الثورة”.
يتأسس “أطفال الثورة” درامياً على رؤية الشابتين بيتنا ومي، إبنتي ماينهوف واليابانية شيغينويو، الى نشاط أمهاتهن السياسي وتأثيراته على مسار حياتهن منذ الطفولة حتى اليوم. ومن خلال انطباعتهن ومراجعة أهم منعطفات حياتهن تتجمع أجزاء لوحة العلائق الملتبسة بين الثوري وأطفاله، بين غاياته التي تتجاوز العائلة وبين الروابط الإنسانية، العصية على النكران. وفي جانب ثانٍ يفرض التاريخ نفسه ويجبر صانعه على استعادته من خلال تجربة المرأتين وما يتوفر من تسجيلات ووثائق تعرض جزءاً من خيوط العلاقة بين عملهن السياسي وعائلاتهن.

حين التقى المخرج شين أوسولفين بالشابتين كانتا قد بلغتا مستوى عالياً من الإستقلالية والنضج، وأن ظلتا وبحكم تجربة كل واحدة منهن والظروف التي أحاطت بهن مختلفتين في طريقة التعبير عن مشاعرهن رغم إنهن إمتهنتا الصحافة والكتابة عملاً. فبتينا ماينهوف (اسمها اليوم وبعد زواجها بتينا رول) وبحكم الأضواء الإعلامية القوية التي سُلطت على تجربة والديها كانت تتحدث بحرية وبشيء من البرود، الى جانب تأكيد موقفها النقدي من تجربة اليسار الألماني الذي سجلته في كتاب من تأليفها. أما مي شيغينويو، فهي موزعة الهوية بين العربية واليابانية وأكثر حميمية في علاقتها بوالدتها، وبالرغم من طول الفراق، مازالت تأمل في ملاقاتها بعد انتهاء محكوميتها. لقد عاشتا الطفلتان ظروفاً مختلفة وإجتمعتا في وثائقي أعاد بذاكرتهن الى الوراء وأثار مواطن الأحزان عندهن ثانية.
عدا جانبه الإشكالي، الفيلم مؤثر، كونه يلامس جزءاً من حياة أطفال حرموا من طفولتهم بسبب النشاط السياسي لأولياء أمورهم. فمن الصعب أن يتفهم الأطفال خيارات غيرهم والأصعب أن يتحملوا وحين يكبرون أعباء ممارسات أقرب الناس اليهم. يطغي الحزن على كلام الشابتين، ويتأثر المرء كثيراً عند سماعهن وهن يتحدثن عن طفولة غائبة، ممحية، لا يتذكرن منها سوى ظلالها الثقيلة.
ربما يزيد من فضولنا البعد العربي في حياة مي شيغينويو، كونها ولدت من أب فلسطيني تعرفت عليه والدتها اليابانية خلال إشتراكها في العمل الفدائي واقامتها في معسكرات الفلسطينيين في لبنان. لقد وصِفَت فوساكو شيغينويو بالعقل المدبر لتفجيرات مطار تل أبيب وخطف طائرات خطوط العال الإسرائيلية لهذا، والى جانب تبوء زوجها مركز قيادياً حساساً في إحدى المنظمات الفلسطينية، أحيطت حركاتها بالسرية التامة خوفاً على حياتها وحياة طفلتها وكل ما كانت تتذكره مي انها كانت تتنقل من مكان الى أخر وما أن تألف موضعاً حتى تجد نفسها وقد نقلت فجأة الى مكان بعيد عنه. لقد عاشت حياة غير عادية لا تشبه حياة أطفال المخيمات فهي لم تتعرف على والدها إلا متأخراً ولم تشعر بقوة إنتمائها الفلسطيني بالكامل. المفارقة وكما قالت “أنها بدأت تدرك هويتها العربية بشكل قوي حين وصلت الى طوكيو، لأنها في المخيمات لم تكن تشعر نفسها فلسطينية مثل بقية الأطفال الفلسطينيين”. قلق الهوية يقابله قلق وجودي عند بتينا التي لم تعش مع والدتها إلا زمناً قصيراً. كانت أمهم مشغولة عنهم دوماً. ولن تنسى الطفلة اللحظة التي تركتها والدتها عند جدتها لتذهب الى معسكرات التدريب الفلسطينية. لن تفهم بتينا تطرف والدتها وانتهاجها العنف مبدءاً إلا كنهاية لحياة سعيدة كانت تنمنى مواصلتها “لقد إنفصل والداي حين كانا في قمة نجاحهما. بعد سنوات صارت أمي متطرفة. لقد وضعت بسلوكها هذا حداً لتلك السعادة”. هكذا تركت حياة الأمهات أثرها العميق على حياة أطفالهن، ولعل كلمات جدة بتينا تلخص الكثير” كانت حياة بتينا وأختها التوأم أشبه بحياة أطفال الحروب”. ومع كل هذا لا يحمل الأطفال ضغينة في دواخلهم. فمَن يتحدث عنهن الوثائقي هن أمهاتهن وليس شخصاً أخر. كانتا بالنسبة اليهن أمهات جيدات لكن السياسة والعمل العسكري أخذتهما بعيداً عنهن.

ما يلفت في “أطفال الثورات” الكم الكبير والمهم من الوثائق ومن الشخصيات التي شاركت فيه ومنحته قوة الإقناع والعمق. والمدهش فيه قدرة صانعه على معالجة موضوع ملتبس مثل التطرف والإرهاب بإسلوب خاص، لم يذهب الى الشعارات والحماسة في الدفاع عن هذا الطرف أو ذاك. لقد ترك تجربة الأبناء لوحدها تُقيّم تجربة الأمهات بمنظور انساني يغني عن الكثير من التنظير والأحكام ويعيد نسج علاقات تبدو منتهية الى الوجود ثانية، مثل علاقة مي بلبان فهي تعود اليه سنوياً، لأنها فيه تشعر بقدر كبير من الحرية والإنتماء الى ماضيها، تُزود نفسها من دفيء تجربة شبابها ودراستها الجامعية وصداقاتها فيه على ما يقويها في اليابان على تحمل الضغوط بسبب ماضي والدتها. الماضي أرث من غير السهل تجاوزه. يمكن تناسيه ولكن لا يمكن محوه، وهذا الدرس تعلمتاه الطفلتان لوحدهما. فالألمانية لن تنسى ماضي والدتها وطريقة موتها التراجيدية لكنها وبإصرار تريد تجاوزها والإهتمام بطفلها ليعيش حياة سوية، ومي تدخر مالاً من عملها لمساعدة والدتها على تحمل عيشها بعد انتهاء محكوميتها وتجد في عملها الصحفي فرصة لتحسين صورة الماضي الجاثم على أنفاسها.
قراءة المفاهيم المتداولة كالثورية والعنف في “أطفال الثورات” متفردة تسمح بقدر كبير من النقاش، ولهذا يخرج المرء من القاعة محملاً بالكثير من الأفكار، فمثل هكذا وثائقي لا ينتهي بإنتهاء عرضه بل ربما يبدأ من تلك اللحظة.