“فيما بيننا”.. منعطفات تحرك المياه الراكدة في حياة خادمة صامتة
ليس هنالك متسع أن نكون كما نبتغي، كلمات توجز تحولات ومكابدات في سعي الشخصية لبلوغ الغاية/الحلم، وأي حلم هذا الذي يتداخل في صنعه الآخرون، كلٌّ بحسب هواه ووعيه وغاياته، وكيف يكون مصير الكائن وهو رهن تلك الأماني/الأحلام التي يصنعها الآخرون أو هم يسهمون في تشكيلها؟
أسئلة تختصر وعي ووجود شخصية أو شخصيات على الشاشات، ومنهم “إيفا” الفتاة التي تنتقل من قعر الحياة في بولندا إلى حياة بديلة في أوروبا الغربية وفي هولندا تحديدا، فالحياة هناك أكثر رفاهية.
في محطة الحافلات تقف “إيفا” (الممثلة البولندية داغمارا باك)، بانتظار سيدها الجديد الذي سيأخذها إلى حياتها الجديدة، وحيث أمنياتها وأحلامها سوف تولد وتورق وتزهر، وحيث الزوجة الوديعة الهادئة بالانتظار (الممثلة رفكا لوديزين). والفيلم هو “فيما بيننا” (Among Us) للمخرج الهولندي “ماركو فان غيفين”، وقد عرض في دور السينما الأوروبية سنة 2012، وشارك في عدة مهرجانات ومنها مهرجان السينما الأوروبية في دورته الأخيرة في بروكسل.
“إيفا”.. بلبلة وحيرة تربك حياة الخادمة
منزل تسكنه أسرة صغيرة من الطبقة الوسطى مكونة من الزوج والزوجة وطفل في عامه الثاني تقريبا، بينما الزوجة حامل مجددا، وهي على وشك أن تضع حملها.
خريطة الحياة سهلة يسيرة، لكنها على بساطتها تقود “إيفا” إلى بلبلة وحيرة مفتوحة، فتشعر أنها تؤدي عملا دخلته ولا تستطيع الخروج منه، بل إنها عاجزة عن رسم ملامح لوجودها في ذلك المكان.
هذا الشكل الذي يؤطر حياة الشخصية هو تنويع على الظاهرة الاجتماعية، ظاهرة قطع الانتماء إلى الأرض والبيئة الاجتماعية السابقة، ومحاولة الانتماء لبيئة اجتماعية أخرى. ظاهرة طالما ارتبطت بالهجرة وتغيير المكان والناس، وهو ما ستظهر أصداؤه ونتائجه في شكل موجات متتابعة من الأزمات الصغيرة المتنامية.
لا تُظهر شخصية “إيما” أيا من علامات الرفض أو القلق، ولكنها أيضا لا
تبدي تفاعلا مع البيئة الجديدة، ولا تتطور علاقتها مع واقعها إلى تعاطٍ متكامل، لا سيما أنها قليلة الكلام بطبيعتها، فردود أفعالها هادئة ولا تجيب كثيرا على التساؤلات التي تطرح عليها.
دفء الأسرة.. مشاعر أمومة لم تجد طريقها للواقع
هكذا وجدنا أن “إيفا” تمتلك قراءة أخرى لواقعها، فهي إذ ترى أمامها صور الحياة الجديدة وتشعر بدفء الأسرة وتفاعلها وعلاقاتها فيما بينها، تشعر بفراغ يدفعها لا شعوريا إلى احتضان الطفل، ثم ما تلبث أن تشركه معها في سريرها معبرة عن مشاعر أمومة لم تجد طريقها إلى الواقع، وهو ما يثير سخط الزوج الذي يرفض أن يغادر ابنه سريره.
هذا المشهد لوحده كان صادما، فهنا كل شيء يحسب له حساب. وما إن تغادر هذه الخبرة القاسية، حتى تسقط في مطب آخر، فهي حين تخرج مع الطفل في نزهة قصيرة في غياب والديه في العمل، فإنها تظن أن الوقت لها، فتعود مع الطفل وقتما شاءت، ولكنها تُفاجأ بردة فعل صادمة أخرى بصراخ الزوجة في وجهها.
ولكي تحاول التخفيف من وطأة أخطائها المتكررة غير المقصودة، فإنها تخرج بصحبة صديقتها في سهرة في أحد النوادي، لكن المشهد التالي هو صدمة جديدة بالنسبة لها، حين تعود ثملة إلى المنزل ويسمع صوت ضحكها الهستيري في أرجاء المنزل بعد انتصاف الليل، لتكون نتيجته احتدام المشكلة مع الأسرة.
جاذبية المحيط الخارجي.. خيارات محدودة لامرأة صامتة
يلاحظ بعد كل ذلك العناية الفائقة بالبناء الدرامي لهذه الشخصية الإشكالية، فالصمت في بعض الأحيان يغني عن كثير من الكلام. فهذه الفتاة الشابة الجميلة لا تحسن التعبير عن نفسها ولا الإفصاح عن أفكارها وماذا تريد وإلى أين تسير في صمتها القاتل هذا، فهي تريد أن تكون مقبولة لدى الجميع ومرضيا عنها، ولكن كيف لها ذلك وما السبيل اليه؟ سؤال من دون إجابة.
تتوسع مساحة علاقتها مع محيطها الخارجي، وهو ضيق بالأساس وخياراتها فيه محدودة للغاية، وذلك في أثناء مصاحبتها لصديقتها التي تعمل هي الأخرى خادمة في أحد المنازل، بيد أن تلك الفتاة تحاول جرها إلى عالم الرجل الذي لم تكتشفه بعد، ولكن من دون جدوى، إذ ترفض تلك المحاولة، كما ترفض أيضا محاولة صاحب المنزل الذي تخدم فيه صديقتها، حين أراد استدراجها إلى ناحيته.
وبعد هذا كله سنجد أسلوبا ملفتا للنظر في السرد الفيلمي يلجأ إليه المخرج بعد النصف الأول من العرض، وهو ما صنع تميز الفيلم إلى حد كبير، وإلا لكنا حصرناه في تلك الدائرة الضيقة من الأفلام التي تحكي هذه القصة، وهو ليس بأولها على أي حال، فهو مثلا بعد أن قدم لنا مشهد عودتها إلى المنزل ثملة وحصل ما حصل مع الأسرة التي تعمل لخدمتها، وبعد مرور عدد من المشاهد نجد أن المخرج يعيدنا مجددا الى بدايات الحدث وخروجها إلى إحدى أندية الليل مع صديقتها وثمالتها.
عودة في ساعة متأخرة من الليل.. ذكريات الأحداث العابرة
بعد أن استوعبنا محاولة ذلك الشخص استدراجها ورفضها له، نجدها في مشهد آخر مستعاد سرديا وهي تذهب إلى ذات الشخص، حيث يعمل في ساعة متأخرة من الليل، وفي الظلام يكتشف وجودها، وأنها بانتظاره ليصحبها بسيارته ويعيدها إلى المنزل، ربما بعد ليلة بكاملها قضياها معا، ولكن من دون أن تظهر تفاصيلها على الشاشة.
السرد المستعاد كما أسميه هنا، هو ليس شكلا من أشكال “فلاش باك” المعتادة، فالشخصية لا تضغط باتجاه استرجاع ما جرى على الإطلاق، ولا تكتب مذكراتها أو يومياتها مثلا ليكون ذلك مسوغا لعملية الاستذكار، كل ذلك لا يحصل، بل إن المخرج يصنع مزيجا سرديا ذكيا وفريدا من نوعه لا يربك المشاهد على الإطلاق، ولكنه يسلط الضوء على حدث أو أحداث مرت مرورا عابرا.
كما يرى المخرج أن لا بد من تفحصها وإعادة قراءتها، فهذا الشكل من السردية المستعادة منحت المشاهد قراءة موازية لما يجري من أحداث وإجابة على أسئلة لماذا وكيف، مع أن تلك الأحداث قد تميزت بواقعيتها، وكونها متابعة يومية لحياة تلك الفتاة.
صرخة الحافلة.. فشل المحاولة الصامتة للتشبث بالمكان
بعد هذا كله، سيبرز مشهد طرد الفتاة وإعادتها إلى ديارها على أنه ذروة لما كان، بموازاة تشبث “إيفا” ومحاولتها البقاء، ولكن بشكل صامت ورتيب للغاية، بيد أن الأغرب هو أنها ستصحو على هذه الحتمية وهي في داخل الحافلة المنطلقة صوب بلادها، ولهذا تصرخ لأجل العودة، وهو رد فعل يكشف بعدا آخر من أبعاد هذه الشخصية الإشكالية الصامتة التي لا تظهر ردود أفعالها للآخرين بسهولة ولا بشكل مباشر.
ولعل هذا الشكل الفيلمي يقدم نوعا من المعالجة السردية السينمائية، ويقتصد في الحوار إلى أقل قدر ممكن فيما يخص الشخصية المحورية “إيفا” عندما يطرحها على أنها شخصية مأزومة، لكن أزمتها تحتاج إلى وعي بما يجري ومحاولة اكتشاف سلبيتها، وهو ما سعى المخرج إليه بذكاء.
ومع أن الموضوع الواقعي الحياتي المعاش قد شكل محورا أساسيا في الفيلم، فإنه باستخدام تلك الطريقة المميزة في السرد المستعاد يكون قد منح الفيلم ميزات إضافية، فضلا عن العناية ببناء الشخصية، وهو ما يرسخ القناعة أنه ليس الموضوع الكبير والمتشعب وحده هو الجدير بأن نهتم به ونتفاعل معه، بل إن هنالك موضوعات أكثر حيوية وبساطة في الحياة اليومية يمكن أن تتوفر على قدر كبير من الجاذبية.