“قبلة بوتين”.. ندبة قبيحة في وجه روسيا المعاصرة
قيس قاسم ـ السويد
لخوض تجربة تسجيل مرحلة سياسية تاريخية معينة، يحتاج السينمائي وقبل كل شيء لفهم موضوعه المقترح بشكل عميق، وأن يتوفر بحثه على دراسات أكاديمية كثيرة تعينه على عمله، إذا ما أراده تحليليا، بالطبع.
ولإنجاز وثائقي بذات المواصفات عن بلد ثانٍ غير بلده فسيأخذ الأمر -بغض النظر عن الإمكانات المتوفرة- طابع المغامرة، وهذا ما يمكن تسجيله على فيلم المخرجة الدانماركية ليسه بيرك فيدرسن “قبلة بوتين” كونها اختارت موضوعا معقدا يخص مرحلة حديثة من تاريخ روسيا ما زالت تتصارع فيها قوى متعددة كل منها تريد ترسيمها وفق مصالحها وقناعتها الفكرية.
اللافت، في أسلوب عمل هذه المخرجة، أنها لم تذهب إلى الأرشيف أو إلى شخصيات ذات وزن سياسي وأكاديمي لعرض واقع روسيا بعد التغييرات الدراماتيكية التي شهدتها منذ تسعينيات القرن المنصرم ونهاية الاتحاد السوفياتي، والتي أدخلت البلاد بعدها مرحلة جديدة لم تحدد ملامحها النهائية حتى اللحظة وإن أخذت طابعا مركزيا فرديا، متعارضا مع ما تدعيه القوى السياسية المهيمنة الجديدة بأنها تسلك طريقا ديمقراطيا “خاصا”.
روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي.. الولوج إلى المجتمع عبر قبلة
لم تذهب الدانماركية إلى كل هذا المألوف بل اختارت الولوج الى عوالم روسيا المعاصرة عبر تسجيلها يوميات شخصيات حية سردت بنفسها تجاربها الحياتية، وبها نقلت وثائقيها إلى مستوى الأفلام الديناميكية المعتمدة على ما ترصده الكاميرا من تفاصيل تتجنب “الثرثرة” المعتادة في الكثير من الوثائقيات التي أريد لها عرض متغيرات تاريخية وسياسية في بلد ما دون كثير اهتمام بالجوانب الجمالية، والتعويل على الصورة كعنصر أساسي في كل عمل يريد الارتقاء بالسينما إلى مستوى المنجز الإبداعي البصري.

وفوق كل هذا يمكن وصف “قبلة بوتين” بالفيلم الخطير كونه يكشف أساليب القمع التي مارسها الرئيس بوتين بحق معارضيه والطريقة الاستبدادية التي يحكم بها روسيا اليوم وكيف أعاد بشكل ممنهج بناء دولته “الديمقراطية” على غرار سابقتها “الدكتاتورية الستالينية” وزيّنها شكليا بأخرى غربية تدعي الليبرالية والتجديد.
ثلاث لقطات في بدايته ستشكل قواعد الأعمدة التي بُني عليها الفيلم دراميا:
الأولى زيارة السياسي الروسي فاسيلي ياكيمنكو لمعسكر الشباب التابع لحركته المسماة “ناشي” (منظمة الشباب الديمقراطي المناهض للفاشية).
الثانية للمتحدثة الرسمية والصحافية الناطقة باسم المنظمة، مايسا دوروكوفا، وهي تتحرك بنشاط وحيوية داخل احتفال للحركة في موسكو.

الثالثة لقطة بالأبيض والأسود مسجلة بكاميرا ديجيتال أخذت عن بعد لمجموعة من الشباب وهم يضربون الصحفي المعارض أوليغ كاشين أمام واجهة منزله ضربا وحشيا. ثم تليها لقطة يظهر فيها وجهه مقربا ويعلن “أنا صحفي مستقل أريد أن أحكي تاريخ روسيا المعاصرة.. هذه الحكاية غيرت مجرى حياتي”.. إنها حكاية الشابة مايسا دوروكوفا، قبل أن تكون حكايته.
حكاية روسيا المعاصرة، كثفتها حكاية القبلة العابرة التي طبعها الرئيس بوتين على خدّ الشابة دوروكوفا في حفل عام، ومن يومها اشتهرت باسم “الشابة التي قبلها بوتين”! ولم يعد أحد يناديها باسمها الحقيقي، بل اقترن كل وجودها باسم قائدها الجديد فلاديمير بوتين وقبلته النادرة، وستفتخر هي بذلك، مثلها مثل الكثير من جيلها الذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واتخذ من شخص بوتين القدوة والمثال وظلوا يفاخرون به.

عمليا، تمثل دوروكوفا نموذجا لأبناء الطبقة الوسطى المنتفعة من وجود بوتين، فهي تعمل في أحد أهم منظماته الشبابية وتدير برنامجا تلفزيونيا تابعا للحركة، عندها شقة وسيارة جديدة، أي كل ما يحلم به الطامعون في السلطة البديلة، ولهذا كانت مندفعة ومتحمسة للعمل قرب قادة حركة “ناشي” التي راح الوثائقي يعرض جانبا خفيا من جوانب عملها، فهي ليست منظمة شبابية فحسب، بل ذراع ضاربة للسلطة، وبها تستفز وتُحَجِّم تحركات المعارضين.
دوروكوفا.. حركة التصدي لأعداء بوتين
يكمن دور هذه الفتاة في التصدي ومراقبة كل ما من شأنه زعزعة سمعة بوتين وحاشيته، وهي على استعداد كامل لإطلاق صفة “عدو” على كل من يخالفه الرأي.
ثمة جانب معتدل ظل قويا في داخلها رغم حماستها، ظهر جليا حين التقت الصحفي المعارض أوليغ كاشين، واستمعت إلى ملاحظاته على طريقة تسيير بوتين لدولته ودور منظمة “ناشي” فيها ورأيه القاسي في أغلبية المنتمين إليها واستحالة تقويمهم بعد إفسادهم.

وستدفع دوروكوفا لاحقا ثمن هذا التقارب، وسيضغط عليها لتحديد موقفها من الحركة الشبابية أو تركها، وهو ما يعني خسارة كل امتيازاتها.
وعلى مستوى آخر يَدخل “قبلة بوتين” إلى عمق الحركات الشبابية ويلتقي الكثير من قادتها ليكشف الطريقة التي كانت تُغذي بها عقول الشباب بأفكار ليست لها علاقة بالديمقراطية، وأن فلاديسلاف سوركوف، الذي يعد العقل المحرك للتغيرات السياسية في البلاد، والرجل الأخطر فيها؛ راهن عليها وأسس رديفا لها أطلق عليه اسم “مكتب الشباب الفدرالي” أراد بها تضليل العامة والإيحاء بوجود تعدد وتنوع وحتى اختلاف في توجهاتها، في حين يدلنا الوثائقي على حقيقة أن قادة المنظمتين كانوا هم أنفسهم ولم يجر أي تغيير جوهري عليهم ولا على ولا أهدافهم.
واقع الحال.. قبلة تتحول إلى ندبة
على مستوى التجربة الوثائقية، مِثل تسجيل اللحظات التي تعرض لها الصحفي المعارض للاعتداء الجسدي، وفقد فيه أجزاء من جسده وتعطلت أجزاء أخرى؛ حافظ الفيلم على الأسلوب الذي أرادته صاحبته له، كما زاد من قوته ملاحقتها لردود الفعل العنيفة محليا وعالميا للفعلة النكراء، وكيف تحالف قادة الكرملين في دعم مسؤول المنظمة وإبعاد كل الشبهات عنه.

لقد مثّل الاعتداء على الصحفي انتهاكا صارخا دفع الشابة دوروكوفا للتفكير في ترك المنظمة وامتيازاتها، وقررت في النهاية التخلي عنها بالفعل، ومثّل في الوقت ذاته قوة إضافية لحيوية الشريط الذي صار يتابع دراميا حكايات أبطاله بوتيرة ديناميكية ميزته عن الكثير من الأفلام الوثائقية المتشابهة الموضوع، وجعلت منه عملا مهما رصد واقع روسيا السياسي بعمق من منظور خال من الكليشهات وبعيد عن الأحكام الجاهزة.
فحكايا أبطاله هي من صنعت “قبلة بوتين” في نهاية الأمر، وبيَّنت لنا كيف تحولت قبلته الشهيرة على خد الشابة الروسية الطموحة إلى ندبة لن تنساها ما دام ورجاله يتسيدون الحكم، وما دامت آثارها القبيحة باقية في أعماق روحها.