الدورة ال12 لمهرجان “أوسيان سينيفان”

طريق السينما العربية الى بلاد الهند

نيودلهي ـ قيس قاسم

مِن أين أتيت الى الهند يبدو الطريق اليها بعيداً، ربما يعود ذلك الى الى أحاسيس تولدها البلاد نفسها أكثر من موقعها، فالهند ظلت في الذهن مكاناً بعيداً مغوياً في تفاصيله عن أي مكان آخر في العالم، ربما ساهمت السينما في خلقه. فعوالم الهند في تراجيدياتها وفي رومانسياتها الحالمة كانت مصدراً محفزاً لتصورات عن أرض يختلط فيهما الخيال بالواقع الى درجة ينزوي فيها المنطق، في أحاين كثيرة، في ركن بعيد من العقل، لهذا ترى “الجميع” متلهفين لمعرفة مدى تطابق الصورة المتخيلة مع الواقع المنتظر معايشته، وهذا ما يفسر غلبة حديث زوار مهرجانها السينمائي “أوسيان سينيفان” للسينما الهندية الآسيوية والعربية عن البلاد وأهلها أكثر من الحديث عن مهرجانها في أول الأمر، والغريب ان منظميه يتصرفون مع ضيوفهم وكأنهم يعرفون ما يجول في خواطرهم، فيتركونهم بل ويساعدونهم لمعرفة أحوال البلاد والإجابة على أسئلتهم دون شعور منهم ان الأمر يقلل من اهتمامهم بالعروض وبقية فعالياته، فهم أعرف من غيرهم بأن  الهند لا يمكن فصلها عن السينما.

وسرعان ما سيعود الزائر الى الخط السري الرابط بينهما، وسيخوض غمار تجربة جمعهما، وعندها سيتحدد ميل كل واحد منهم وذائقته مع أن التأثير الشخصي من وحي التجارب الصغيرة يظل قوياً فحديث أي ضيف عن مكان غريب زاره، أو ركن شاهده تسري عدواه سريعاَ بين البقية لكن ثمة أمر واحد يجتمع عليه الزواء ويتقاسمون رؤياهم حوله انه: الجوع المخيف السائد في نيودلهي وما يتركه من بؤس على الناس والأمكنة. هذا المشترك يضعف ودون دراية منهم “عدوى” الترويج للأفلام كما يحدث في مهرجانات كثيرة، فقلما تسمع أحدهم ينوه بفيلم ما شاهده، فتضيق التجربة “التعميمية” في أضيق مساحة ويترك المجال أوسع لإختبارت أكثر فردانية، وعفوية أحياناً، خاصة وأن سينما الجزء الآسيوي من العالم تشهد نمواَ وتصنع تجربة ومعها ذائقة جديدة، غير التي إعتدنا عليها ومعرفتنا بها تظل قليلة، وتميز المهرجان يأتي جزء منه من هذا الجانب، وأظن وجود السينما العربية بالنسبة للآخرين وخاصة الجمهور الهندي يعني لهم ذات الشيء، فهم لا يشاهدونها يوميا ولا يعرفون مواطن قوتها وضعفها ناهيك عن تاريخها والأسئلة التي طرحها المستمعون الى ندوة الناقد سمير فريد وشت بذاك، وكشفت الحاجة الى اشباع رغبة حقيقية عند الآخر لمعرفتها. لقد أعطى صاحب المحاضرة ومن وحي تجربته الشخصية واسلوبه الحلو صورة عامة عن السينما المصرية والعربية وقدم تصوراته عن مفهوم النقد السينمائي دون ايغال في المفاهيم الأكاديمية مركزاً بدلاً عنها على ما تجمع عندة، في مدى زمني طويل وغني، من وعي ومعرفة. فالنقد عنده حق مشاع لكل انسان وله كامل الحرية في الحكم على أي فيلم لكن  الفرق الأساس بينه وبين الناقد المحترف أن الآخير “يشتغل” في المهنة ويختص بها، يمارس الكتابة السينمائية  وفق منهج  يتبلور مع الوقت، وأن وظيفة النقد تتجاوز طرح الأسئلة الى مستوى الإجابة على ما يدور في ذهن المتلقي منها. أسئلة الحضور كانت كثيرة أجاب عليها فريد بما يسمح له الوقت في حين ظل الكثير بحاجة الى إكتمال ليس بمقدور دورة مهرجان واحدة القيام بتغطيتها والأمر ينسحب على الأفلام العربية المعروضة فيها فهي بالتأكيد لا تغطي كل ما أنتج مؤخراً في العالم العربي.

 ولكن البرنامج الخاص بها حاول التوفيق بينها بما يعطي تصوراً عن أهم ما قدم أو يغطي جزءاً من حراك سينمائي فرضته الأحداث السياسية كما غطتها الندوة الخاصة بأفلام الربيع العربي والتي شارك فيها المخرج المصري أحمد رشوان وعضوة لجنة تحكيم مسابقة الأفلام العربية والآسيوية آن ماري جاسر. ثيمات التطرف الديني والإرهاب فرضت نفسها على  فيلمي: “المغضوب عليهم” لمحسن البصري وفيلم الجزائري مرزاق علوش “التائب”، فيما جاءنا الموضوع الفلسطيني من خلال فيلمين قصيرين، هما: المشارك في مسابقات مهرجان كان الأخير “فلسطين، صندوق الإنتظار للبرتقال” لبسام شخيص و”حنين” الذي كان بإمكان صاحبه أن يصنع منه فيلماً جيداً لولا اصراره على المضي قدماً في التعبير المباشر عن الظلم الذي يعانيه الشعب الفلسطيني في الداخل، دون انحيازه الى الصنعة السينمائية. فيما اختار التونسي أنيس لسعود  لفيلمه “صباط العيد” أن ينتمي الى الهاجس اليومي، المليء بالتفاصيل الموحية بقساوة الواقع وقوة تحمل الكائن لها عبر حكاية غاية في البساطة والعمق بطلها طفل في داخله  قوة على العطاء والمساعدة لهذا نراه راكضاً طوال الوقت يقطع شمال قريته بجنوبها جرياً قد لا يحتمله حذاءه ليبيع ما تنتجه أمه في البيت ويساعد المحتاجين من شيوخ القرية. “سباط العيد” كان يمكن صنع فيلم طويل منه لكن صاحبه أراد له أن يكون مكثفاً يرفع قصر زمنه من قوته، لم يريده مترهلاً بل سريعاً كما كان ذاك الصبي في عدوه اليومي والذي اصطدم يوم العيد بفقر حال والده الذي عجز عن شراء حذاء رياضي له أحب أن يحتذيه ليساعده على طول الجري. الحزن في “صباط العيد” عميق ومؤثر، يذهب بنا الى الربط بين أسباب ثورة البلاد على جشع حكامها. فقوة تصادم براءة الطفولة وحب المساعدة مع العوز والفقر تخلق احساساً عالياً باللاعدل وقوة التعبير البصري الرزين غير المبتذل تدفع تلك الأحاسيس الى مواضع التفكير في الأسباب المولدة لذلك التصادم المنفر. لقد أبعد أنيس فيلمه عن المباشرية المستجدية التعاطف الى ملائمة الحكاية مع شكلها البصري المناسب دون زوائد أو إدعاء!.    


إعلان