الفيلم الجزائري: قداش اتحبني؟
رامي عبد الرازق
في نهاية فيلم”قديش تحبني”وكما صعد الطفل عادل إلى منزل جدته بمفرده في بداية الفيلم ينزل مرة أخرى في نهايته وحيدا ليجلس على دكة خشبية بينما يحيطه السكون وخلفه البيوت المكدسة بالأسرار والحكايات وأمامه العالم ليواجه بمفرده.
هذه النهاية تمثل الذروة الشعرية والأنسانية التي تصعد إليها المخرجة الجزائرية “فاطمة الزهراء زموم” في فيلمها, والذي عرض ضمن فعاليات مسابقة أفلام مهرجان خريبكا للسينما الأفريقية (يوليو/تموز 2012).
عادل طفل في الثامنة من العمر ونتيجة لانفصال والديه يذهب للعيش مع جدته خديجة التي تهوى الطبخ وجده لوناس الذي يغوى تربية العصافير وهناك نكتشف من خلال عادل أن العالم ما هو إلا حديقة حيوانات واسعة او غابة غريبة الأطوار وان علينا ان نواجهها بمفردنا بينما ذادنا الحقيقي في تلك المواجهة هو مقدار الحب الذي يكنه لنا الأخرون دون مقابل.
فكرة الفيلم بسيطة ويكاد ينتمي لنوعية فيلم”اللا حبكة” (non plot) ولكنه يعتمد في تصاعده الدرامي والشعوري على مراكمة التفاصيل والربط فيما بينها ومن هنا استخدمت المخرجة اللقطة القريبة”close shot” كي تجعلنا نستغرق تماما في كل تفصيلة ونحاول ان نربطها بما قبلها وما بعدها وبالتالي تكتمل لدينا الصورة السينمائية والفكرية في النهاية.
قديش تحبني؟؟
في البداية تساءل الجده عادل “قديش تحبني” اي إلى إي مدى تحبني ويشير لها عادل مباعدا ما بين يديه الصغيرتين مسافة قصيرة ويقول لها مقدار هذا, ولكن هذا السؤال يظل معلقا فوق رؤوس شخصيات الفيلم دلالة على أن الحب هو الذاد الحقيقي والوسيلة التي يمكن أن تجعلنا نتجاوز مشاكل الحياة وهمومها, خاصة عندما تبدأ تلك المشاكل في الاحتكاك بالوجدان الطفولي لعادل منذ ان يرى جده وهو يحبس العصافير في الأقفاص كهواية , ولا يستوعب عادل ما هو الممتع في حبس العصافير ويتعاطف كثيرا مع عصفور تقول له جدته انه يكره القفص ويظل يدور فيه بحثا عن الحرية, ثم يصطحبه جده إلى حديقة الحيوانات لنرى نموذج اوسع واكبر للأقفاص وبالتوازي تظهر لنا شخصية الفتاة شيماء جارتهم المحجبة التي تحب جارها الشاب وتضطر للكذب على اهلها للخروج معه بلا حجاب ولا قيود اجتماعية فالأقفاص ليست فقط للعصافير ولكن للبشر ايضا, وصحيح أن المسافة التي يحددها عادل لمقدار حبه لجدته تذداد مع الفيلم لكن يظل السؤال نفسه هو الأهم وليست الأجابة !

لا تستخدم المخرجة وجهة النظر الذاتية ابدا مع اي من الشخصيات حتى عادل نفسه الذي هو محور عالم الفيلم اي لا تضع الكاميرا محل عيون الشخصيات فنرى ما ترى ونسمع ما تسمع ولكنها تستخدم وجهة النظر الموضوعية دلالة على رغبتها في احداث تواصل اكبر مع المتلقي من خلال عملية ضرب المثال البصري والدرامي فعادل لا يعرف شيئا عن علاقة شيماء بحبيبها ولا يراهم وهم يقبلون بعضهم خلفه في الحمام لكن السرد يسمح لنا بمتابعة العلاقة ضمن الخيوط التي تحيط بعادل نفسه وتشكل علاقته بالاخرين.
عند اول لقاء بين عادل وامه ترينا المخرجة الام في لقطة بعيدة تجلس مع ابنها ولا نسمع حديثهم ولكن الجد- والد الأب- يأتي ليصطحب عادل بعيدا عنها فهو لا يريد ان يعلم ابنه0 والد عادل- انه التقى بأمه المنفصل عنها, وفي نفس الليلة يبدأ عادل في مغادرة الطفولة تدريجيا وتقدم لنا المخرجة مشهدا معبرا حيث يقوم عادل بتقشير ورق الحائط المرسوم عليه الشخصية الكارتونية الشهيرة”جرينديزر”دلالة عل انه لا يرغب في ان يظل طفلا صغيرا بل يريد ان يكبر ويتمرد-بصريا- من خلال تقشيره لورق الحائط الطفولي للحجرة التي ينام بها.
نوستاليجا الطفولة
تفرد المخرجة مشاهد كثيرة لحالة سينمائية يمكن ان نطلق عليها “نوستالجيا الطفولة” حيث نرى لقطات كثيرة لعملية اعداد الطعام الجزائري التقليدي من قبل الجدة وجاراتها, وفي ظاهر الامر هي عملية تسلية لعادل تعبيرا عن حب الجدة له عبر ما تجيده وهو الطعام الشهي, ولكن مع اقتران عملية اعداد الطعام بالأغاني الفلكلورية التي تغنيها الجدة والجارات نشعر اننا امام حالة استرجاع عاطفي لطفولة المخرجة نفسها او طفولتنا جميعا حين كنا نلتف حول الجدات في المواسم للأشتراك في عملية اعداد الأطعمة الموسمية أو الولائم الجماعية.
وقد افردت المخرجة شريط الصوت للأصوات الطبيعية في الفيلم واقتصدت كثيرا في التعبير بالموسيقى اولا لأنها اتخذت شكل واقعي جدا في التعامل مع الفكرة فلا شطحات فانتازية ولا احلام ولا حتى مشاهد استرجاعية(فلاش باك), ثانيا تجنبا للتأثير الميلودرامي الذي تخلقه الموسيقى في هذا النوع من التيمات ذات البعد الاجتماعي خصوصا عندما يتطور الامر ويرفض والدا عادل الصلح وينهار عادل على اثر انهيار محاولة الصلح التي يسعى لها الجد والجدة من اجل الطفل الصغير.
ولكن وجود الأغاني التراثية هي جزء من حالة نوستالجيا الطفولة بالفيلم وتأكيدا على ما تريد شخصية الجدة ان تزرعه من قيم عاطفية وجمالية في وجدان الطفل الذي يصدمه الشعور بأن العالم حديقة حيوان ضخمة, حتى انهم يختارون له ورق حائط جديد يحوي اشكال حيوانات وهي دلالة بصرية هامة تؤكد على فكرة حديقة الحيوان او الغابة الحياتية التي نعيش فيها.
سؤال في الحياة
نعود للسؤال الأساسي في الفيلم(قديش تحبني)والذي تبدو المخرجة وكأنها تطرحه على كل الشخصيات تاركة الاجابة للفعل والحدث, فالشاب يجيب على السؤال بتمسكه بحبيبته شيماء وهي تظل على حبها له ورغبتها في التحرر والانطلاق معه حيث نراهم في مشهد رقيق ينطلقان في سيارته وتخلع هي الحجاب وتتحرك الكاميرا نحو الأفق دلالة على الانطلاق وحلاوة الحب.
وقد سبق للشاب ان اجاب على السؤال عندما ابتزته الجده بعد أن رأته هو وشيماء خارجين من السينما فطلبت منه أن يقوم بلصق ورق الحائط الجديد في حجرة عادل دون مقابل, ووافق الشاب ليكون فقط قريبا من فتاته ويأمن ان الجدة لن تبوح بسرهم.
والجدة تجيب على هذا السؤال طوال الفيلم من خلال علاقتها بعادل واستجابتها لطلباته سواء بطبخ الاكلات التي يحبها واصطحابه لحديقة الحيوانات والسينما, اما الام والاب فنجدهم يجيبون سلبا على السؤال بتركهم عادل بمفرده في النهاية ليواجه الحياة دون دعمهم او رعايتهم وهي رسالة تتجاوز الفكرة الأجتماعية إلى افق انساني اكثر رحابة وفلسفية فكلنا في النهاية اطفال صغار في هذه الحياة ولحظة أن نكتشف أن علينا ان نواجهها بمفردنا هي اللحظة التي تغادرنا فيها روح الطفولة ويبقى بداخلنا ذلك الشجن الرقيق الذي نستشعره في المشهد الأخير لجلوس عادل بمفرده على الدكة الخشبية مرتديا زي المدرسة وهي دلالة بصري اخرى تشير لفكرة مدرسة الحياة التي تنتظره او الخبرات التي تراكمت في وجدانه الصغير جراء ما شاهده وعاشه في الأيام القليلة التي قضاها في منزل جده وجدته.
قدمت المخرجة حركة ممثلين جيدة خاصة انها تتعامل مع حيز مكاني ضيق هو شقة جدة عادل والتي تمنحنا الشعور من خلال بعض الكادرات بأنها معادل مكاني لفكرة الأقفاص التي يربي فيها الجد العصافير, كذلك قدمت الممثلة الجزائرية نجية دباحي دور الجدة بعفوية شديدة تكاد تنتفي معها فكرة الحوار المكتوب اي كأنها تمثل دورها في الحاية وقد تجلى في ادائها ارواح الجدات الائي طالما تشابهوا مهما اختلفت المدن والثقافات.
وحرصت المخرجة على أن تتعامل مع العالم من خلال قامة الطفل الصغير حيث أن الكثير من الكادرات التي يظهر فيها عادل نجد الكاميرا في مستوى قامته وليس في مستوى قامة الكبار من حوله وهو تأكيد بصري على كونه محور العالم الفيليمي من ناحية واننا كملتقين بحكم النظرة الموضوعية التي تتخذها الكاميرا وليس الذاتية نجد انفسنا في طول قامة الطفل وبالتالي نرى العالم داخل الفيلم كأطفال نحاول ان نجيب على اسئلة الحياة الصعبة.