لندن.. بابل هذا العصر


أمستردام – محمد موسى

يروي الشاب الذي كان يقف أمام محله للقصابة حكايته لفيلم “لندن :بابل حديثة”: ” حصلت على عمل بعد إسبوع من وصولي لندن، بعد شهرين بدأت محلي الخاص، خلال عام إشتريت شقة صغيرة قريبة، أعيش فيها الآن مع عائلتي” ثم يوجه سؤاله للكاميرا بلكنته الاوربية الشرقية: ” في أي مكان في العالم يمكن أن يحصل هذا لغريب مثلي..؟”. كادر الكاميرا الليلي للمقابلة كان يقطعه المارون في الشارع اللندني المزدحم، بشر من كل الجنسيات والسحنات في طريقهم إلى بيوتهم او أشغالهم في المدينة الواسعة، التي لا تشبه باريس او روما في فخامتها، وأسرارها تتكشف تباعا، ومجدها ليس دائما معلقا على بنايات فخمة. كما إن لندن تختلف عن مدن أوربية عريقها بتحولاتها وتبدلاتها المستمرة المتواصلة، حيث تتغير كل عقد تقريبا وجوه كثير من أحيائها ويحل سكان جدد محل سكان مغادرون إلى وجهات جديدة. فعندما ترك أبناء الطبقات العمالية الأنكليز أحيائهم في بدايات القرن الماضي، حل بدلهم يهود اوربا الشرقيين، وعندما غادر اليهود، جاء الأفارقة وسكان المستعمرات البريطانية، وعندما ترك هؤلاء جاء الهنود والباكستانيين في سبعينات القرن الماضي، والآن ينتشر عرب واوربيين شرقيين وبشر من كل العالم في أحياء المدينة العديدة، التي قدموا اليها باحثين عن مستقبل آخر في المدينة “الايقونة”، والتي مازال يطلق عليها “عاصمة الضباب”، رغم إنها ودعت ضبابها منذ عقود طويلة ليحل بدل عنه أبخرة الأكل الصيني والهندي.

إذا كان سمة لندن الحديثة هو التغير، فهذا جعل القبض تسجيليا على “لندن” واحدة صعب بمكان، فعندما يبدو إن المدينة إقتربت من الإستقرار وعثرت على نموذج إجتماعي وأحيانا إقتصادي خاص، يحدث شيء جديد في العالم، يصل تأثيره سريعا الى “لندن”، لذلك يبدو مشروع فيلم “لندن: بابل حديثة” للمخرج جوليان تمبيلر، والذي عرض في الصالات السينمائية البريطانية أثناء اولمبياد لندن، ووصل إلى شاشات هيئة الاذاعة البريطانية ( بي بي سي) أخيرا، مشروعا طموحا الى حد كبير، خاصة إنه يقدم قرنا طويلا كاملا من عمر المدينة في ساعتين تسجيليتين، مركزا كثيرا على هجرات بشر من حول العالم الى “لندن”، وكيف غير هؤلاء هوية المدينة، من دون أن يهز هذا التغيير من مكانة المدينة التي كانت تحكم العالم، قبل أن تفقد سلطاتها وماضيها الاستعماري، لتتحول الى مدينة مفتوحة، ملهمة، يعشقها كثيرين ويتوجه إليها ملايين كل عام للسياحة والعمل، منهم من يبقى فيها حياته كلها.
تكاد المادة الإرشيفية تشكل معظم عماد الفيلم التسجيلي، الذي يستعيد أفلام قديمة من نهايات القرن التاسع عشر للمدينة بسكانها “البيض” من الإنكليز ومهاجرين قليلين من الجزيرة البريطانية نفسها، توجهوا إلى لندن، عندما ضاقت بهم قراهم ومدنهم في إسكلندا، إيرلندا وويلز. من إرشيف ما قبل الحرب العالمية الاولى، هناك أفلام صورت لجنود بريطانيين كانوا متوجهين إلى الجبهات الفرنسية والألمانية. تعقب تلك المشاهد، أفلام أخرى لبعض من هؤلاء الجنود يعودون مقطوعي الاطراف من الحرب التي لم تعرف الاسلحة الحديثة الفتاكة، لكن جنودها شهدوا الويلات في حروب الاسلحة البيضاء القاسية. من حسن حظ الفيلم إنه وجد سيدة تجاوزت المائة من السنوات، وشهدت عظام الأحداث في مدينتها، لتعلق على تلك الصور. تتذكر السيدة اليهودية، المهاجرة هي الاخرى الى لندن، دموع امهات الجنود العائدين من الحرب العالمية الاولى، وتتذكر أيضا فقر سنوات العشرينات في المدينة، التي تقول إحصائية وقتها إن ما يقرب من نصف أطفالها لم يكونوا يملكون أحذية. كما تتذكر السيدة المسنة جيدا صعود الحركة الفاشية البريطانية، والتي كانت متعاطفة مع صعود الفاشيات في اوربا.
لندن التي هزمت الفاشية، كادت طائرات النازية أن تكسر ظهرها خلال الحرب العالمية الثانية، وعندما أنتهت تلك الحرب بهزيمة النازية، بدت المملكة العجوز وكأن عليها ان تواجه تحديات جديدة مختلفة، فمستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس بدأت بالغليان بفعل الثورات الوطنية المطالبة بالإستقلال، والمهاجرون من تلك البلدان بدؤوا يطرقون أبواب المملكة ولندن بالتحديد. يستعيد الفيلم التسجيلي مشاهد من الهجرات الواسعة الاولى لبريطانيا، والتي لم تمر أبدا دون معارضة شعبية، أخذت اشكال سياسية عبر نشاط أحزاب بريطانية يمينية إرتكز خطابها السياسي دوما على ترهيب البريطانيين من الهجرات والمهاجرين. مع كل موجة هجرة جديدة، كانت “لندن” النموذج الناجح الذي يستند عليه المروجين لفتح بريطانيا واوربا أمام الغرباء. هذا لا يعني إن طريق لندن كان دائما سهلا، فالفيلم التسجيلي يقدم أيضا مشاهد من أعمال الشغب التي ضربت المدينة في كل عقد من السنوات تقريبا. أعمال الشغب تلك، والدمار الذي تلحقه، كانت، بعنفها الكبير، وكأنها ترمم روح المدينة وابنائها وتعدهم لتحديات السنوات القادمة.

كحال مجموعة من الافلام التسجيلية الكبيرة في السنوات الآخيرة، إعتمد فيلم ” لندن: بابل حديثة ” بمعظمه على المواد الإرشيفية، لكنها لا تقتصر هنا على المواد الارشيفية المسجلة وقتها لنشرات الاخبار التلفزيونية او لدواعي الارشفة العامة والخاصة، الفيلم يستعين أيضا بتراث السينما البريطانية الروائي، وكأن هذا الأخير أصبح لا ينفصل عن التراث “المسجل”، بقبضه على روح الزمن المنقضي وأبطاله، كما إن الأفلام الروائية التي صورت قبل الحرب العالمية الثانية خارج الاستديوهات أصبحت من الوثائق عن المكان والمدن قبل تدميرها في الحرب تلك. فيلم ” لندن: بابل حديثة ” يختلف أيضا عن افلام مثل :” السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو ” و ” سينا ” واللذان تتبعا شخصيات تاريخية معروفة ضمن مسار زمني تصاعدي واضح، فيلم ” لندن: بابل حديثة ” ينطلق من بداية زمنية محددة لكنه إمتلك حرية أكبر، من جهة إختيار المواد الإرشيفية، لتقديم مايراه مناسبا لوصف التبدلات والتحولات التي طرأت على المدينة.
يذهب كثير من جهد مخرجي الأفلام التسجيلية التي تعتمد على المواد الإرشيفية على التوليف والذي يمنح الأفلام بالنهاية الروح والإيقاع الخاصين، والذان يقتربا في فيلمي ” السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو ” و “سينا” من التراجيديا، فيما إبتعد توليف فيلم ” لندن: بابل حديثة “، بشكل حاسم عن إستخدام الصور والأفلام الشهيرة، وربط ما توصل إليه من مواد إرشيفية أقل شهرة عبر موسيقى عصرية إنتج كثيرا منها في إستديوهات لندن الموسيقية. يمجد الفيلم المدينة، المتعددة الطبقات، والتي تنوء الآن بمسؤولية حمل أوزار العالم.الذي تجمع عينات من سكانه تحت السماء التي تكثر فيها الغيوم بالعادة ولا ينقطع مطرها الا قليلا.


إعلان