جمال أمين ممثلاً في “صائد الأضواء”
أداء هادئ لثيمة مبتكرة
عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية سينمائية بعنوان “جمال أمين مُمثلاً” بعد أن قدّمته المؤسسة ذاتها قبل سنة من هذا التاريخ تحديداً بأمسية مماثلة كانت تحمل عنوان “جمال أمين مُخرجاً” وقد عرضنا له في حينه ثلاثة أفلام وهي “فايروس” و “اللقالق” و “العتمة الأبدية”. أما في هذه الأمسية فقد تمّ عرض فلمين روائيين وهما “صائد الأضواء” إخراج محمد توفيق، و “العربانة” لهادي ماهود. وقد عُرض هذين الفلمين في عدد من المهرجانات العربية والدولية وقد قوبلا باستحسان النقاد والجمهور على حد سواء، لكن هذه الاستحسان لم يمنع بعض المتلقين، وبعض الأسماء النقدية من الاعتراض على ثيمة الفلم، وبنائه، وأداء شخصياته، والتقنيات المستعملة فيه. سنتوقف في هذه التغطية عند فلم “صائد الأضواء” لمحمد توفيق وسوف نخصص مقالاً منفرداً لـ “عربانة” هادي ماهود.
يتمحور فلم “صائد الأضواء” على شخصية شاعر عراقي مغترب يعيش في المنفى الدنماركي. وقد شاهدناه في اللقطات الافتتاحية من الفلم مريضاً جرّاء إصابته بالإنفلاونزا، ومتدثراً ببطانية، ولا يحبِّذ الخروج من المنزل، فهو مُطلَّق من جهة، ويميل إلى العزلة الفردية من جهة أخرى، ربما لأنه يحتاج الخلوة للتأمل كي يلج في مناخ الكتابة الشعرية، كما رأيناه يدوِّن بعض الصور الشعرية بين أوانٍ وآخر، لكنه لم يتخلّص من القلق الروحي الذي يسكنه، فثمة هواجس مٌقلقة كثيرة كانت تدهمه، وتهيمن على ذاكرته المنهمكة في كتابة النصوص الإبداعية الشعرية ولعل أبرزها قلق الغربة، وقلق الذات التي تبحث عن أشياء ضائعة في خضّم عالمه الواقعي الذي بدا وكأنه مقبرة لأحلامه وتطلعاته الذهنية الكبيرة التي تتراوح بين الركون في المساحة الوجدانية أو التجلي في الفضاءات الإبداعية التي توفِّر في الأقل لذّة النص ومتعته الناجمة من العملية الإبداعية كما يذهب رولان بارت.

لقد اعتمد كاتب السيناريو على فكرة محددة وهي “اللحية” التي يريد أن يضعها الشاعر على وجهه، لكنه نوّع هذه الفكرة، وشظّاها، ومنحها أبعادا كثيرة، فثمة أنماط متنوعة من اللُحى لمفكرين وأدباء وفنانين ورجال دين كانوا يملأون الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، تارة نرى ماركس، وبفارويتي، وحيفارا، وبن لادن وعشرات الأسماء المعروفة التي تستقر في الذاكرة الجمعية للناس، فأية لحية سيختارها هذا الشاعر، القلق، المأزوم الذي يحاول تبديد سأمه ووحشته وعزلته القاتلة؟ يبدأ السينارست لعبته الفنية حينما يقوم الشاعر بتشذيب لحيته التي أطلقها، فمرة يزيل بعض الشعيرات من خدّيه باللملقط، وتارة يحددها الموسى، وحيناً يحلق نصفها بالماكينة الكهربائية، وحيناً آخر يجعل منها “سكسوكة”، لكن كل هذه الأشكال التي صنعها لم ترُق له، إذ يجهز عليها في خاتمة المطاف لنراه حليق الوجه نظيفه! ثم يفاجئ المتلّقين حينما يُلقي بكل الصور التي صوّرها ضوئياً من نافذة منزلة وهو يغرق في القهقهة. يا تُرى، هل كان يزجّي الوقت، ويقتل ساعات عزلته التي لا تبددها سوى اللقاءات الخاطفة ببعض الأصدقاء العابرين، أم انه انهزم أمام هذه الفكرة وتراجع عنها نهائياً، فهو بالنتيجة قلق، مأزوم ومهزوم في آنٍ معاً؟ لقد اختلفت آلية التلقي لهذا الفلم من قِبل الحضور، فالمخرج محمد توفيق ذيّل هذا الفلم بتوقيعه الشخصي وأصبح هذا الخطاب البصري مُلكاً للمتلّقين، وهم وحدهم لديهم الكلمة الفصل في رؤيته وتقيّيمه بالطريقة التي يرونها مناسبة ولا تتعارض مع آليات استقبالتهم لنمط الرسائل التي ينطوي عليها هذا الفلم الذي وصفه بطل الفلم “الفنان جمال أمين” بأن مختلف، وينطوي على قدر كبير من المغايرة ليس في ثيمته الغريبة حسب، وإنما في معالجته الفنية المُبتكرة. سبق لي أن ذكرت في مقال سابق أن الفنان جمال أمين ممثل متمكن من أدواته الفنية، ولعل أجمل ما فيه هو أداؤه الهادئ الذي يكاد يخلو من الانفعالات اللامبررة التي قد تنقلب ضد مصلحة الممثل من جهة، والمخرج من جهة أخرى. أثار حضور مؤسسة الحوار الإنساني عدداً كبيراً من الاسئلة المهمة، كما أدلى بعضهم بآراء شخصية مهمة أغنت الندوة البصرية سنتوقف عند بعضها تباعاً. فقد تساءل الكاتب عبد المنعم الأعسم في مداخلته قائلاً: “هل أن هذا الفلم عراقي، وهل يتناول معاناة شريحة محددة من الناس”؟ ثم عرّج في سؤاله الثاني على البطل وقال: هل كان الشاعر يعاني من الغربة أم من البطالة أم من قهر المجتمع؟ ورأى بأن بنية الفلم لم تقم على التضاد بين فكرتين أو قوتين أو إرادتين، لكنه عاد ونوّه إلى أنّ “أداء جمال أمين قد كشف عن قدرته القوية في التعامل مع الكاميرا، وقدّم ملامح أغنت الفلم، كما أن أسلوبه التعبيري قد ساعد المُشاهِد في التقاط أشياء كثيرة في الفلم، وتوقع له أن يكون أحد القامات السينمائية المعروفة في العراق”.

أشار المخرج السينمائي أكرم جمعة إلى عدد من إخفاقات الفلم ونجاحاته، ولعل أبرز الإخفاقات من وجهة نظره هي “الرونغ داركشن”، وبطء الإيقاع، وبعض اللقطات والتكوينات غير الموفقة التي تخدم السياق العام للفلم، كما أن الفكرة التي اشتغل عليها المخرج لم تصل إليه بوصفه متلقياً متخصصاً ومنقطعاً إلى العمل السينمائي. وقد رأى أنّ حلاقة الشاعر للحيته هي محاولة جدّية للخلاص من مشكلاته المقلقة والتحرّر منها نهائياً. أجاب الفنان جمال أمين بوصفه بطلاً للفلم وعارفاً بكل أسراره الداخلية العميقة حيث قال: (إن “الرونغ دايركشن” يعني انكسار الخط الضوئي على الشاشة، وهناك العديد من كبار المخرجين العالميين يستعملون “الرونغ دايركشن” الذي تربينا على عدم استعماله وفقاً لنصيحة الأساتذة الذين درّسونا، لكنني موقن تماماً بأنّ محمد توفيق كان متقصداً في استعماله لأنه يريد أن يعكس القلق الموجود داخل شخصية البطل المأزوم. لقد استعمل بيتر بروك “الرونغ دايركشن” وكسر الخط الوهمي في الصورة للسبب نفسه أعلاه كي يُظهر القلق الذي يعتمل داخل الشخصية الرئيسية، وهذا يعني أنّ بروك لم يلتزم بالحدود الأكاديمية للإخراج السينمائي. لقد أدرك محمد توفيق أن بطله الشاعر قلق جداً، ومأزوم، ولابد أن يُظهر للمشاهدين أسباب قلقه الذي سيفضي إلى هزيمته النهائية). أشار أمين أيضاً إلى أن لكل مخرج طريقته الإخراجية، ورؤيته الخاصة في معالجة فلمه الروائي. كما نوّه إلى اعتماد الفلم برمته على شخصية واحدة تتعامل مع موضوع واحد لا غير، ورأى أمين بأن المخرج محمد توفيق قد نجح اختيار هذه الشخصية الصعبة التي أقنعت المتلقين. أما إيقاع الفلم فقد كان معقولاً من وجهة نظره، بوصفه بطلاً للدور، وقد تماشى مع مناخ الفلم الذي تصاعد في بنيته الدرامية ثم أفضى إلى هذه النتيجة العبثية المؤسية التي تجسّد مرارة الهزيمة التي مُني بها الشاعر المأزوم. ثمة معوّقات كثيرة تواجه المخرج العراقي في المنافي الأوروبية من بينها الاعتماد على الميزانية الشحيحة “Low Budget” أو انعدام هذه الميزانية تماماً “No Budget”، الأمر الذي يدفعهم إلى الصرف من جيوبهم الخاصة، كما حصل في فلم “صائد الأضواء”، ولكنه مع ذلك استطاع الوصول إلى عدد من المهرجانات المهمة من بينها قرطاج، ودبي، وألمانيا والسويد وقوبل بإطراء العديد من النقاد. انتبهت الشاعرة دلال جويد بذكاء إلى ملاحظتين مهمتين، الأولى أن المرأة لم تغب عن ذهن الشاعر على مدار الفلم على الرغم من أنها لم تظهر على الشاشة، لكنه كان يفكر بها كمعجبة ويتوقع ردود أفعالها. أما الملاحظة الثانية فهي أن الفلم برمته قائم على فكرة واحدة وهي “اللحية” وقد ظل المخرج يتابعها إلى النهاية باختزال شديد لم تألفه في أفلام أخرى.
نخلص إلى القول إنّ الأداء الهادئ والمعبِّر للفنان جمال أمين هو الذي منح الفلم نكهة خاصة ودفعت المُتلقين لأن يتابعوا الفلم ويتفاعلوا معه بطريقة عضوية بحيث لم يتركوا شاردة وواردة إلاّ وتوقفوا عندها محللينَ إياها، وملامسينَ عصبها النابض.