الأبعاد المجازية في فلم “الطيّاب”

عدنان حسين أحمد
ثمة أفلام لا تغادر الذاكرة بسهولة ربما بسبب موضوعها المتفرِّد، أو أداء بعض شخصياتها، أو معالجتها الذكية التي تعزز في نهاية المطاف الرؤية الفنية للمخرج الذي يذيّل الفلم بتوقيعه الشخصي على الرغم من أن الفلم هو خلاصة لجهود جماعية كبيرة في أغلب الأحيان. وفلم “الطيّاب” الذي نحن بصدده هو من هذا النوع اللافت للانتباه. يتمحور هذا الفلم على فكرة “غسل الأحياء” وتدليك أجسادهم في الحمّامات الشعبية بمدينة سوسة التونسية، لكن هذه الفكرة المهيمنة على مدار الفلم ستنحرف عن السياق العام المتعارف عليه، وسوف يتحول ونَيِّس، “جسّد الدور الفنان نعمان حمدة”، من مُدلِّك للأجساد البشرية الحيّة إلى “غاسل” للجثث التي فارقت الحياة في انعطافة غير مسبوقة في حياته الشخصية. لم يكتفِ المخرج أنور الحوار بهذه الفكرة كمادة أساسية لفلمه الروائي القصير، وإنما أراد شحن الفلم بمعطيات تعبيرية ومجازية إضافية تناقش ثنائية الحياة والموت من خلال اللعب على مفارقة غسل الأجساد الحيّة والميّتة من جهة، والتأمل في ثنائية الوجود والعدم كفكرتين فلسفيتين عميقتين من جهة أخرى. وأكثر من ذلك فقد أراد المخرج أن يوظِّف جانباً من الثورة الشعبية التونسية العارمة التي أسقطت النظام الاستبدادي يوم 14 يناير 2011، ولكن هذا التوظيف لم يخرج عن حدود الإشارة والتلميح، فحينما توفي “ميلود” لم يجد أخَواه من يغسله ويكفِّنه لأن أحد الشخصين المكرّسين لغسل الأموات كان مريضاً، والثاني منشغلاً بأحداث الثورة التونسية، الأمر الذي يدفعهما للتفكير بحلٍ سريع كي لا تظل جثة أخيهم مسجاة على سرير الموت، خصوصاً وأن الأخ الأكبر “أدى الدور باتقانٍ عالٍ الممثل عبد الحميد قيّاس” لا يتحمّل النظر إلى جثة أخيه.

كما أنه لا يحب هذه المهنة التي تتطلب قوة وصلابة لا يتوفر عليهما. أما الأخ الثاني فهو أحول وأصلع وكث اللحية أشعثها، وفقهياً لا يجوز لذي عاهة أن يغسِّل ميتاً. لقد اختصر المخرج عملية غسل الميت بالماء والطين “الطفّل”، وتطيبيه بالأزهار العطرية الجافة، وربما تستغرق العملية قرابة الساعة، لكنه اختصرها في الفلم كثيراً من دون التفريط ببعض النقاط الأساسية في عملية الغسل والتطيّيب والتكفين. لم يعرف الطيّاب القراءة والكتابة، فهو أمي بقدر أو بآخر، كما أنه لم يغسّل ميتاً طوال حياته، وقد أقدم على هذه العملية لأنه وجد نفسه في وضع حرج أمام شقيق الميت الذي يعرفه من كثب. لقد اتبّع الطيّاب خطوات الغسل التي كان يلقّنها إياه شقيق الميت حيث طلب منه أن يبدأ بالماء البارد أولاً، ثم الصابون ثانياً، وأخيراً استعمال الطين “الطفّل” ثم تنظيف الجثة بالماء. كان الأخ الأكبر يلقّن الطيّاب من وراء ستار ويتلو عليه الأدعية التي تفتح أبواب الرحمة على الميت، وتقيه من عذاب القبر وسؤاله عسى أن يثبِّت الله قدميه على السراط المستقيم. لم يسلم الطيّاب من هذه التجربة الصعبة التي غيّرت طريقة تفكيره بالحياة، إذ شعر بسطوة الموت وهو يغسل الجثة البادرة، خصوصاً وأنه أمضى حياته كلها تقريباً في حمّام ساخن يلامس فيه أجسادا دافئة ونابضة بالحياة، لكنها متسِّخة تتنظّف بواسطة خبرته التي اكتسبها منذ سنين طويلة في هذه المهنة التي تدور تفاصيلها في فضاء ساخن. يُصاب الطيّاب بصدمة كبيرة حينما يمس الجثة الباردة فتهتز أمام ناظريه معادلة الحياة والموت التي تقوده إلى إشكالية السخونة والبرودة في علاقتها الجوهرية بثنائية الوجود والعدم التي تضع المتلقي أمام جدوى الحياة وسؤال الموت المؤرِّق. وحينما يعود الطيّاب إلى مهنته الرئيسية كمدلِّك في الحمّام يلتبس عليه الأمر، ويشعر بالإحراج ربما لأن زبائنه سوف يعرفون، إن آجلاً أم عاجلاً، بأنه قد غسّل جثة ميت، وها هو الآن يعاود مهنته الأولى كطيّاب وكأنّ الأجساد الحيّة التي أمامه هي مجرد “جثث حيّة” لا غير! فلاغرابة إذاً حينما يفشل في مواصلة عمله الأول كمدلِّك، ولابد له أن يبحث عن مهنة أخرى يؤمن بواسطتها رزق أطفاله. ربما يكون المشهد البصري الأجمل في هذا الفلم هو مشهد الأب الذي يغسل بالطين رأس ابنه الصغير الذي كان يتوفر على ملامح جمالية آسرة فيتذكر الطيّاب تجربته الممضة في غسل جثة الميت بالطين، عندها يترك الحمّام ويغادر هذه المهنة إلى الأبد لنجده في خاتمة الفلم خزّافاً يصنع الجرار الطينية مُذكَّراً إيانا بأننا خُلقنا من تراب، وإليه سوف نعود حين تخرج الأرواح من سجونها البدنية. لابد من الإشارة إلى أن المخرج أنور الأحور متخصص بعلم النفس، وحاصل على درجة الماجستير في حقل اختصاصه، وهو يحاول دائماً أن يعالج بعض القضايا الإشكالية من زاوية نفسية كما حدث بالضبط للطيّاب الذي وجد نفسه في لحظة عصيبة غسّالاً لجثة هامدة لم يألف همودها وبرودتها من قبل لأنه كان غارقاً في عالم ساخن بفضائه وكائناته البشرية التي تسترخي تحت يديه الخبيرتين بالتدليك. جدير ذكره أن فلم “الطيّاب” هو من بطولة عبد الحميد قيّاس، مصطفى القوضاعي، محمد أرناؤوط ونعمان حمدة، وإخراج أنور الحوار، وقد تمّ تصويره بمدينة سوسة التونسية.

                      المخرج انور الحوار ويسارا الممثل نعمان حمدة

وفي أثناء تواجدنا في مهرجان الإسماعيلية لهذا العام سألته عن السبب الكامن وراء عزوفه عن الترويج الإعلامي لتجربته السينمائية أجاب قائلاً: “دعني أعترف بأنني كسول بعض الشيء فيما يتعلق بالتعريف بنفسي أو الدعاية لأفلامي المُنجزة، وقد انتقدني الكثير من الأصدقاء السينمائيين وغير السينمائيين وقالوا لي بالحرف الواحد بأنّ السينما تحب الشخص الذي يحسن الكلام ويعرف كيف يقدِّم نفسه للجمهور من جهة، وللجهات الإعلامية المختلفة من جهة أخرى”. لكنه اعترف بأنه لا يتقن هذه المهنة إذ قال: ” أنا أمتلك طبيعة انطوائية ولا أجد راحة في التواجد على موائد المبدعين، لأنّ همّي الأساسي هو حُب السينما لذاتها، وهي حُبي الأول والأخير، وإن شئت فهي محنتي الأبدية منذ الطفولة”. ثم سألته عن أهمية دراسته لعلم النفس، وهل أفادته في تعزيز تجربته السينمائية قال: “لقد جرّبت فنوناً كثيرة مثل الرسم، والخط العربي، والعزف على آلة العود، والمسرح، لكنني وجدت في علم النفس طريقة للتحايل أو الاقتراب من السينما بكل آلياتها ومعانيها البصرية، وبكل ما يدور في فلكها من صورة، وحركة، وفرجة، وخيال، وحلم، وشخوص وحياة”. أما عن سبب انهماكه في مشاغل أخرى قد تبدو بعيدة عن السينما فقد أوضح أنور قائلاً: “أشتغل موظفاً في وزارة التشغيل والتكوين المهني وهو مجرد حل للعيش ولطلب الكفاف، أما عملي بالسينما فهو ينحصر في الأوقات المتاحة خارج ساعات الدوام الرسمي”. واختتم أنو الحوار حديثه بالقول: “إنني أفضِّل الوظيفة الحكومية كمختص نفساني، لأنني أوفر بالنتيجة شيئاً من الراحة الذهنية التي تتيح لي في الأقل أن أنتج شريطاً قصيراً  كل عام، وأعتبر نفسي أوفر حظاً من كثير من السينمائيين الذين يجدون أنفسهم مضطرين للعمل تحت الطلب في الإنتاجات الدعائية والإشهارية والتلفزية الساذجة”.


إعلان