سينما البيئة… بيئة السينما
وسيم القربي- تونس
تتعرّف البيئة حسب قاموس “روبار للغة الفرنسية” أنها “مجموع الظروف الطبيعية (الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية) والثقافية (علم الاجتماع) التي يمكن أن تؤثر على الكائنات الحية والأنشطة البشرية”، وقد أصبح موضوع البيئة يمثل إشكالية عميقة باعتبارها قضية العصر نظرا لحساسية التغيّرات الطارئة في مجتمعات عالمية أصبحت تعتمد على الصناعة كنشاط اقتصادي أساسي منذ تاريخ الثورة الصناعية الأوروبية والاختراعات المتعاقبة. ولقد أصبح موضوع البيئة يتصدّر طليعة اهتمامات القارة الإنسانية باعتبار تأثير الصناعات على السلامة البيئية وعلى المحيط مما جعل مكونات المجتمع العالمي تهتمّ بقضايا التلوث البيئي، ومن بين الوسائط تمّ الاعتماد على السينما لتمرير الصورة وتوعية المتلقي.
“جزيرة الأزهار” لـ “جورج فورتادو”: الوثائقي البيئي/ المرجع
“جزيرة الأزهار” Ilha das Flores هو شريط وثائقي قصير يدوم 12 دقيقة للمخرج البرازيلي “جورج فورتادو” وتمّ إنتاجه سنة 1989، وبالرغم من مرور أكثر من عشرين سنة إلا أنّ هذا الفيلم بقي وثيقة ومرجعا لم تغزوه التجاعيد. يروي الفيلم، الذي جمع بين كل ما هو تقني وعلمي ومعالجة سينماتوغرافية للمفهوم، الطريق التي تسلكها “الطماطم” منذ إنتاجها من طرف السيد “سوزوكي” إلى حدود التخلص منها كنفايات في جزيرة الأزهار لتستهلك من طرف مجموعات بشرية فقيرة جدّا لا تجد سبيلا لقوتها غير تلك النفايات. انطلاقا من “الطماطم” ينتقل بنا المخرج إلى تعريفات علمية للإنسان والزمن ومراحل إنسانية من تاريخ البشرية، ليكون الفيلم بمثابة الحلقة المفتوحة التي ينتقل فيها المفهوم عن طريق الجزئيات وينسج القضية الفيلمية الرئيسية المشحونة بتفرعات قضايا أخرى. يبيّن لنا جورج فورتادو كيف تعتمد الطماطم في المطبخ البرازيلي غير أنّ سيّدة تكتشف أنّ إحداها متعفّنة فتتخلص منها في سلة الفضلات التي ينقلها عمّال النظافة إلى جزيرة الأزهار. هناك في جزيرة الأزهار المملوكة لأحد الأثرياء تنتظر مجموعات بشرية دورها للدخول إلى مصبّ النفايات لفرز ما يمكن أن يصلح من الأشياء ولكي يقتات هؤلاء من تلك الفضلات. غير أنّ هذه المجموعات البشرية لا يُسمح لها بالدخول إلا عندما تنتهي الخنازير من أكل ما يمكن أن تأكله. هكذا يكون الإنسان في مقام لا يسبق الخنزير، وهي صورة بشعة تبيّن إنسانية تنزل إلى مقام لا إنساني يكون فيه الحيوان أكثر قيمة منه.

هي معالجة كوميدية سوداء تكون فيها الكوميديا دافعة للحزن عوضا عن الضحك، وهي قراءة لعولمة بشعة ورأسمالية جشعة لا تحترم إنسانية الإنسان، بالإضافة إلى تسليط الضوء على البيئة المتلوثة من خلال مصبات الفضلات فإنّ المخرج عكس حالة يعيشها أكثر من 13 مليون “مواطن” برازيلي يعيشون تحت خطّ الفقر. وثائقي يجمع تقنيا بين الصورة المتحركة والثابتة والتخييل والواقع ويجمع على مستوى الموضوع والرمز بين بشاعة اقتصاد السوق والإنسان المهمّش وانعكاسات البطالة ليصل إلى نقد سياسي يتجاوز جغرافية البرازيل ليحيل على جغرافية العالم، كما أنّ هذا الفيلم مثّل وثيقة علمية شرح فيها “فورتادو” بعض الظواهر والمفاهيم بغية بناء فيلمه وتسليط الضوء على رسائله المقلقة. هي صور بقيت راسخة بالذاكرة لوثائقي انطلق من البيئة الطبيعية ليصل إلى البيئة الإنسانية ويختتم الفيلم بعبارة “الحرية هو مصطلح يغذيه حلم الإنسان، لا يوجد أيّ كان يستطيع أن يفسّره…”
وثائقي “جزيرة الأزهار” كما عبّر عنه “جورج فورتادو” هو فيلم صُوّر لكي يتعرّف كائن خارجي على حقيقة الكرة الأرضية.
“توافق الإنسان مع البيئة”: سينما البيئة/ بيئة السينما
قليلة هي المهرجانات والسينمات العربية التي تهتمّ بالبيئة، غير أنّ مهرجان العالم العربي للفيلم القصير بإفران- أزرو بالمغرب الذي يتولّى إدارته عبد العزيز بالغالي يحاول في كلّ دورة أن يسلّط الضوء على سينما تحمل قضايا بيئية. وخلال الدورة الرابعة عشر التي انتظمت من 23 إلى 26 أغسطس الماضي، انعقدت على هامش المهرجان ندوة فكرية أمّنها كل من الدكتور حميد تباتو والدكتور يوسف آيت همو من المغرب والباحث وسيم القربي من تونس، وقد تمّت مناقشة مجموعة من الإشكاليات التي تهمّ السينما والبيئة. وقد تطرّق الباحث يوسف آيت همو إلى التمثلات السينمائية لعلاقة الإنسان بالبيئة، حيث اهتمّت السينما بالمحيط البيئي منذ ولادتها من خلال عدّة أفلام مثل “نانوك” لـ “فلاهارتي” و “روبنسون كروزوي” وجلّ أفلام والت ديزني، وقد انقسمت علاقة السينما بالبيئة إلى علاقة حميمية وعلاقة صراع. كما أكّد آيت همو أنّ سينما البيئة تُوظف فيها جماليات وتقنيات وبحوث على غاية من الأهمّية غير أنّ “العالم العربي يشهد ندرة لأفلام البيئة وذلك راجع لصعوبة كتابة سيناريوهات بيئية ولتعالي المثقفين تجاه قضايا البيئة” حسب قوله.
من جانبه تناول الباحث حميد تباتو مسألة “السينما والوعي البيئي” على اعتبار أنّ البيئة إشكالية مستعجلة تستدعيها الضرورة الثقافية من أجل بناء سينما فاعلة والاهتمام بالبيئة في السينما هو من بين المسائل المتعددة كقضايا الهامش وإبداعية الاختلاف.
كما أبرز تباتو أنه “لا تهم مقاربة البيئة في السينما وفي الحديث عنها بالتركيز على ما يعد عناصر مكونة لها فقط من مثل الماء والهواء والتراب بل بالتركيز على ما يصحح النظر إلى هذا الإشكال بربطه بالبنية الاجتماعية والسياسية وغيرها، وبتوضيح ما يغطيه من غيوم إيديولوجية. فالبيئة حضرت دوما في السينما العالمية وساهمت في في تشكيل أجناس واتجاهات فيلمية من مثل سينما الطريق والسينما الخضراء والأفلام العلمية … كما ساهمت في توضيح انتساب الكثير من السينمات خاصة السينما الإفريقية والثالثية”.
لقد احتضنت السينما البيئة وحضرت هذه الأخيرة في جلّ الأفلام بصيغة آلية غير أنّ التركيز على البيئة في الصورة الفيلمية العربية يتفاوت حسب إبداعية واحتياجات صانع الصورة. إنّ الحديث عن تأسيس سينما بيئية يشترط إعادة استقراء البيئة التاريخية واستخراج العبر وإعادة تأهيل البيئة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والثقافية والسياسية… كما أنّ تيمة البيئة غالبا ما مثلت موضوعا صوريّا أو سطحي التناول بالرغم من أهمّية هذا الموضوع وإمكانيات استثماره وتوظيفه في سينمانا. غالبا ما حضرت الجمعيات البيئية بصفة صورية من أجمل تلميع واجهة سياسية وجمع تمويلات غربية دون حضور فعلي في المشهد الثقافي بتغييب الوعي بضرورة توجّه المبدع نحو قضايا بيئية تزخر بها جغرافية القارّة الإنسانية. يبقى مستقبل الوثائقي البيئي غامضا وتبقى البيئة منبعا لمواضيع سينمائية نادرة لم تجد من يستثمرها، كما يبقى الوثائقي نوعا من سينما بيولوجية خالية من كلّ المساحيق التي تستعملها السينما التجارية وهو ما يجعل هذا الجنس الإبداعي محرجا للسلطة.