الأقصر للسينما: السينما عندما تتكلم في السياسة


رامي عبد الرازق

عشرة افلام روائية ضمتها مسابقة الأفلام الطويلة خلال فعاليات الدورة الأولى لمهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوربية(17-22 سبتمبر)مثلت تلك الأفلام عشرة دول هي مصر كدولة مضيفة وتسعة دول اوروبية هي فرنسا,المانيا,اسبانيا,اليونان,البرتغال,رومانيا,صربيا استونيا وفنلندا مع غياب واضح لايطاليا باستثناء فيلمين في مسابقة الأفلام القصيرة رغم ان السينما الأيطالية واحدة من السينمات التي اثرت في بعض تيارات السينما المصرية, كذلك تم الأكتفاء بفيلم الأفتتاح البريطاني صيد السلامون في اليمن دون تواجد بريطاني في مسابقة الأفلام الطويلة.
الملاحظة الاساسية على المسابقة هي طغيان نوع الفيلم السياسي فمن بين العشرة افلام نجد ان ثمة ثمانية افلام على الأقل تنتمي للسينما السياسية سواء المؤدلجة التي تنحاز إلى تيار سياسي واضح ومعروف كاليسار او السينما السياسية صاحبة الصوت النقدي او الراغبة في توثيق الحدث السياسي تاريخي كان أو آني, كذلك وجود افلام تنتمي لسينما الدعاية السياسية احادية النظرة.

 في الفيلم الفرنسي”ثلوج كليمنجارو”للمخرج روبير جيديجيان نشاهد تجربة انسانية في اطار من الأدلجة اليسارية الواضحة حول عامل في ميناء يحال للتقاعد ويتعرض لحادث سرقة لمعاش تقاعده وتذاكر رحلة سياحية اهديت له كي يسافر مع زوجته لكنه بحكم مبادئه اليسارية وايمانه بالمجتمع يجد نفسه في موقف المضطر لأن يتبنى طفلين صغيرين هم اخوة السارق الذي كان زميله في الميناء.
 كان من الممكن ان يكون هذا الفيلم اكثر تأثيرا على المستوى الدرامي والسينمائي لولا نبرة الحديث العالية عن الموقف اليساري والعولمة وانهيار الحضارات والذي بدا مقحما في كثير من مواقف الحوار ونفس هذا النبرة العالية ولكن بشكل زاعق نسمعها في فيلم”بعد الموقعة” المصري الذي يعتبر امثل اجابة على سؤال كيف تفسد السياسة فيلما جيدا؟ فالقصة الأنسانية التي تقع بين المثلث العاطفي الشهير الزوج والزوجة والحبيبة او ريم ومحمود وفاطمة شخصيات الفيلم كان من الممكن ان تعبر عن الكثير من الافكار السياسية لصانع الفيلم دون ان يكون هناك حاجه لتلك الخطابية الساذجة وذلك الأقحام المصطنع للواقع السياسي في مصر بعد الثورة واول ما يفسد في سينما الطنطنة السياسية هو الحوار حيث نجد الشخصيات فجأة تنطلق في حديث سياسي او في الحديث عن السياسة دون مناسبة درامية او منطق سردي بل لمجرد نقل افكار المخرج الذي هو كاتب السيناريو والذي ينحاز في مراهقة سياسية وسينمائية واضحة لجبهة سياس نزلة السمان الذي شاركوا في موقعة الجمل وكأنه يحاول تحليل الثورة من وجهة نظر الأخر الذي قاومها.
وبنفس المنطق الدعائي بلا محتوى حقيقي يأتينا فيلم”ولاية”الأسباني للمخرج بيدرو بيريز روسادو والمصور داخل احد معسكرات جبهة البوليساريو الأنفصالية التي تريد الأستقلال بالصحراء المغربية تدعمها في ذلك الجزائر واسبانيا وهي احد القضايا الشائكة في الوطن العربي وشمال افريقيا وينحاز الفيلم سياسيا إلى جبهة الانفصال حتى انه يظهر العلم الانفصالي مرتين داخل الفيلم مع بث معلومات في بداية الفيلم ونهايته عما يتصور انه واقع سكان الصحراء.

واسواء ما في الأفلام الدعائية أنها آحادية النظرة للقضية, صحيح ان الفن انحياز لكن الأنحياز الفني لا ينفي الموضوعية في الطرح كما ان محاولة تصوير واقع السكان الأنفصاليين على انه واقع بائس بلا ماء للشرب او مساعدات انسانية افسد الهدف السياسي للفيلم فالتعاطف لا يحدث مع الواقع ولكن مع الشخصيات والمخرج لم يتمكن من صياغة هذا التعاطف لانه لم ينجح في رسم شخصيات حية وحقيقية بل مجرد نماذج فارغة تتحدث عن مشاكلها السياسية والنفسية دون ان نلمس تلك المشاكل على ارض الواقع الدرامي, جاء الحوار مفككا وفاترا والصراع الدرامي ساكن بلا تطور او ذرى حتى ان التحول الذي حدث للبطلة التي هي صحراوية تربت في اسبانيا وعادت للصحراء لتزور اخوتها على مضض ثم قررت البقاء معهم, حتى هذا التحول يحدث بلا اسباب منطقية او عبر صراع ارادي او لاارادي وانما في شكل قفزات ومشاهد مهترئة وتصوير هزيل دون استغلال للواقع اللوني للصحراء او التباين البصري للخيام والملابس.
في مقابل هذه الأفلام صاحبة الصوت العالي والرؤية السياسية المشوشة والدعائية نجد تجارب اخرى مثل فيلم”الدب”للمخرج دان شيزو من رومانيا وهو تجربة تشبه عوالم المخرج البوسني امير كوستوريتسا في تعاملها مع القضية السياسية عبر واقع هزلي وساخر لكنه عميق وحقيقي ان مجموعة عمال السيرك الذين يمثلون الشعب الروماني بعد سقوط ديكتاتورية شاوشسكو يجربون ممارسة الديموقراطية لاول مرة في حياتهم عبر ازمة بيع الدب الذي يقتنيه السيرك من اجل تسديد الأجور, ان رومانيا مشهورة بالدببة وفكرة بيع الثروات القومية من اجل سد رمق الشعب هي اول واخطر المشاكل التي تواجه اي دولة بعد فترة نهب وديكتاتورية كما هو الحال في مصر الأن كما كان في رومانيا وقت سقوط طاغيتها.
وعن نفس الفترة ونعني بها بداية الستعينيات تعود المخرج الصربية ادريانا ستكويفيتش في فيلمها”الصندوق”لتتحدث عن ايام ما قبل حرب البلقان عندما بدأ الجميع يغادرون خوفا من نذر الحرب التي تدق الأبواب صحيح انه اتخذت الشكل التسجيلي او اعادة بناء الوقائع والشهادت عبر لقاءات تسجيلية مطولة مع ممثلين يتحدثون بلسان حال الشخصيات الواقعية التي عاشت تلك الفترة إلا ان الفيلم جاء فاترا شكلا وموضوعا ولم تتمكن المخرجة من تطوير فكرة الصندوق الذي هو موتيفة فلسفية تعبر عن طبيعة حياتنا التي تتشكل عبر صناديق كثيرة صندوق للذكريات وصندوق للمشاعر وصندوق للأحلام وصندوق للأمل.

من انضج التجارب التي شاركت في مسابقة الأفلام الطويلة هما تجربتا فيلم”بربارا”من المانيا للمخرج كريستيان بيزولد وتجربة”رحلة للبرتغال”للمخرج سيرجو تريفو, التجربة الاولى تتحدث عن الحياة تحت وطأة نظام سياسي شمولي قامع يمنع الناس من ممارسة حريتهم في الحب والسفر وحتى في الموت من خلال شخصية الطبيبة بربارا التي تريد الهجرة من المانيا الشرقية وقت النفوذ الشيوعي على اوروبا الشرقية وعبر عينيها نتابع واقع تجريدي ينطبق على كل بلد يحكمها نظام شمولي لا يعترف حتى بحرية ان يخبأ الأنسان سرا بداخله.
اما”رحلة للبرتغال”فهو من اقسى افلام النقد السياسي لواقع ما بعد الازمة المالية العالمية حيث نتابع 24 ساعة في حياة امراة اوكرانية تم القبض عليها في مطار لشبونة رغم انها تحمل فيزا سليمة وذلك لمجرد الأشتباه في انها مهاجره غير شرعية, ونتابع خلال تلك الأربع وعشرين ساعة الدموية كيف يتم انتهاك ادميتها وكرامتها وحقوقها الانسانية من قبل سلطات المطار البرتغالي دون اي سبب قانوني حيث قدم المخرج صورة بالابيض والأسود تشبه الكوابيس التي لا تنتهي وعبر تجريب شكلي استخدم فيه تقنية القطع باستخدام شاشة بيضاء واعاد بعض اللقطات والمشاهد من وجهتي نظر مختلفتين ليبرز مدى ثقل الزمن ووطأة الاحتجاز على نفسية بطلته.
تبقى ملاحظة اخيرة وهي ان اغلب افلام المسابقة كانت لمخرجين يقدمون تجاربهم الروائية الاولى ورغم ذلك جاءت بعض هذه التجارب على مستوى عال ومؤثر سينمائيا إلى جانب نضج الطرح السياسي وقوته.
   


إعلان