التجريد في المشهد السينمائي الفرنسي المُعاصر(1)
رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني
كريستيان لوبرا
في نصيّن نُشرا نهاية السبعينيّات : “من باليه ميكانيكية إلى السينما البنيّوية”، و”هاهي السينما ما بعد البنيّوية”، يُحدد “كريستيان لوبرا” مجاله التعبيري كسينمائيّ (15).
في النصّ الأول، يبعدُ فيلم “فرناند ليجيه” عن أعمال مُعاصريه، ويجعل منه أحد أسلاف السينما البنيّوية.
وفي هذا الخصوص، كتب :
(في الحقيقة، يُشكل “باليه ميكانيكية” معالم بحث سينمائيّ جذريّ، يجد أسلوبه في الأفلام البنيّوية على شكل ثلاث تساؤلاتٍ جوهرية : العناصر التي تمّ تصويرها، سرعة إدماج المعلومات، وأخيراً، الترتيب العام للفيلم) ـ مجلة Melba ـ.
يُصور “فرناند ليجيه” هذه العناصر في لقطاتٍ كبيرة بدون علاقةٍ مع ما تُمثلها في الواقع، ويعزل منها تفاصيل معينة من أجل الحصول فقط على صورتها التشكيلية، ومن ثمّ، بفضل المونتاج السريع للعناصر المُتناقضة مع الإستعانة بالصورة السوداء، وعدداً محدوداً من الكادرات، يخلق نوعاً من التوزيع يؤدي إلى بناء آلة لتحويل الطاقة، ما سوف يكون واحداً من أهداف السينما البنيّوية.
على حين يُبعد النصّ الآخر ممارسة “كريستيان لوبرا”، وزملائه في Paris Films Coop (كلودين إيزكمان، غي فيهمان، دومنيك ويلوغبي، جان ميشيل بوهور) عن السينما البنيّوية .

وهنا، لم يعدّ هؤلاء السينمائيون في حالة بحثٍ عن سياقاتٍ ذات معنى:
(عند الما بعد بنيوييّن،.. السياق موجودٌ مُسبقاً، يمنح نفسه من الوهلة الأولى، كما هو، وسوف يحاول السينمائيّ توظيفه إلى الحدّ الأقصى من كثافته) (16).
في (1978-1980)Trama، يُقسّم “كريستيان لوبرا” مسطحاً للتصوير إلى ستة شرائح شاقولية متساوية الألوان (أصفر، أحمر، أزرق، أخضر، بنفسجي، وبرتقالي).
يظلّ التكوين ثابتاً طوال الفيلم، بينما يشدّ السينمائي الفكرة البصرية المحوريّة نحو الجانب كلّ إطارين، أو ثلاثة.
يبني خطوةً خطوة بمُساعدة عشر شرائط مختلفة، ويُحدث الخليط الضوئيّ للألوان تأثيراتٍ غريبة من النبضات.
معHolon (1981-1982) يصل السينمائي إلى درجةٍ مكثفة جداً في إقتران الألوان، ويخلق نظاماً متجانساً، مكتفياً بذاته تماماً، ويعمل بطريقةٍ مخبرية.
في هذا الفيلم، تسعة شرائط مثقوبة تُشكل آلةً لتخفيض الصبغات، حيث يمكن للألوان، الجوانب، السرعات، والإيقاعات أن تتقاطع فيما بينها إلى ما لانهاية عن طريق التوالد الذاتيّ.
وبينما يؤكد Trama الموقع الشاقولي للشريط كي “يجعل الشاشة تنفجر من الداخل” كما يقول السينمائي، يُحوّل Holon الفيلم إلى ذبذبةٍ حقيقية من الألوان.
من المُؤكد، بأنّ وصف هذه الأفلام لا يُعوّض عن تجربة مشاهدتها على الشاشة، بمعنى إختبارها في زمن العرض.
اليوم، تمرّ مسألة التجريب ـ من التشكيل إلى التشويه ـ عن طريق التهجين بين معطياتٍ متنوعة تصنع منها كلّ ثرائها.
تقريباً، كلّ الإستراتيجيات الجمالية التي تمّ شرحها أعلاه، أُعيد إستخدامها في الإبداعات السينمائية التجريدية المُعاصرة.
دومنيك لانج
في أفلامه، يعود “دومنيك لانج” إلى ممارسةٍ معينة من السينما الصافية، تلك التي نظرّت لها “جيرمين دولاك” سابقاً.
في Romance d’automne (2000-2001)، يستعين كأنماطٍ بأماكن مهجورة، حدائق، وكراسي خشبية، ومن خلال توظيفٍ تشكيليّ عن طريق الكاميرا، يُحوّلها إلى لوحاتٍ تجريدية، وغنائية حيّة (يُخيّل لنا بأنه يعجن الصلصال)، وبدون اللجوء أبداً إلى التحريك، أو الرسم، يتمكن من تحقيق ما حصل عليه “أوسكار فيشينغر”، أو “لين لاي” بدءاً من نماذج تخطيطية، أو مرسومة.
في هذا الفيلم، نلاحظ صعوداً نحو الضوء : الإنطلاق من أماكن مُعتمة، سميكة، ومزدحمة بالأشكال العنكبوتية، والتسامي نحو السماء، الوضوح.
منذ الإفتتاحية، وبالعكس من أفلامه الأخرى، نجد بأنّ كلّ واحدٍ من مقطوعات ثلاثيته

Soupirs d’écume (Soupirs d’écume 1، Vagues tourments، Au-delà du néant,)( 2000-2004) يُدخلنا في قلب شريطٍ من أنماطٍ مُكثفة، وتصويرية، يقدم سطح الشاشة تحوّلاً بطيئاً من الأفكار التجريدية المُكررة.
يستمدّ (Soupirs d’écume 1) كافة إحتمالياته التشكيلية من زجاج نوافذ الكنائس : التسارعات، الإبطاء، ضبابية الملامح، وخلط المعايير تجعل منه سيمفونيةً حقيقيةً من أشكالٍ تجريدية إنسيابية (في معظم الأحيان، يستخدم السينمائيّ طريقة التصوير/المونتاج المباشر عن طريق الكاميرا) .
(Vagues tourments) تمّ تصويره في حديقةٍ بعد وقتٍ قصير من العاصفة التي حدثت عام 1999.
في بعض اللحظات، ينمحي تداخل الأشكال التجريدية، كي تظهر لنا بعض النقاط الدالة عن الأماكن.
وكما حال الفيلميّن القصيرين من هذه الثلاثية، يستخدم ( Au-delà du néant) إستراحاتٍ طويلة تصل إلى ثانيتيّن، وتُحوّل قبراً في مقبرة “Père-Lachaise” إلى لوحةٍ متحركة من التجريد الزاخر بالأحاسيس، والمشاعر الروحانية، والإثارة المادية.
هوامش المؤلف :
(15) ـ “من باليه ميكانيكية إلى السينما البنيّوية”، و”هاهي السينما ما بعد البنيّوية” نصّان نُشرا على التوالي في العددين 4-5 من مجلة Melba Magazine (ديسمبر1977)، وفي كراسةٍ بعنوان “بين الصور: ملاحظات حول أفلامي، والسينما” (كريستيان لوبرا، ParisExpérimental، مجموعة “شرطٌ لا غنى عنه”، 1997).
(16) ـ يؤكد “كريستيان لوبرا” : “في السينما البنيوية، يبقى السياق قابلاً للإكتشاف (على سبيل المثال في Wavelength لميكائيل سنو، لا نعرف كيف سوف ينتهي الفيلم، ولا في أيّ مكانٍ بالتحديد)، الأفلام البنيوية لها بداية، ونهاية يمكن التعرّف عليهما، يبقى أيضاً جنين بناء حكائيّ : قصة السياقات نفسها في بعض الحالات.

في السينما الما بعد بنيوية، على العكس، تنشط السياقات منذ البداية، إنها هنا، منذ الوهلة الأولى، مثل آلة، نظام يتوجب على المتفرج الدخول فيه، السينمائي، بدوره، يُنشط السياق إلى أقصى حدود إمكانياته، ولهذا السبب، نجد بأن الأفلام مبنية غالباً من “أنماطٍ” في حالة تتابع، وتمثل طرائق مختلفة لتنشيط السياقات (على سبيل المثال، Trama، ولكن أيضاً Vitesses Women (1972-1974) لكلود إيزكمان يعملان بهذه الطريقة)، النموذج يشبه “دوامة”، الأفلام ليس لها بداية، ولا نهاية، تدور حول نفسها، يمكن أن نغير أماكن الأجزاء المختلفة بدون أن يتغير الفيلم، إنها حالة فيلمي Autoportraitau dispositif (1981) والذي يمكن عرضه بدون مبالاة من هذا الجانب، أو الجانب الآخر، ولهذا السبب، أُظهر في النهاية العنوان معكوساً، إنه مرآة بوجهيّن، أو مثل ظاهرة تأثير إنعكاس الصوت : التوالد الذاتيّ” (حوار مع المؤلف، باريس، نوفمبر عام 2005).
هوامش المُترجم :
Raphaël Bassan
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان” يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).