النقد السينمائي في عصر مضى: كيف كان وكيف أصبح

محمد رُضا
يعد  النقد السينمائي رؤية  موازية  لما تعيشه المجتمعات ، في أي زمان ومكان، من تجاذبات سواء كان ذلك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً و مواكبات  لجزئيات  الحياة من أفكار وتيارات..  وحيث أن النقد السينمائي  كان يمر بالأزمة ذاتها  اذ لا يمكن له أن يختلف وينشط ويزدهر في الوقت الذي كانت فيه  الثقافات والشؤون الفكرية والفنية تعيش بدورها حالة من التردي الأمر الذي كان مختلفا مع النقد السينمائي في عصره الذهبي،  خاصة في الستينات والسبعينات.. 
آنذاك، كانت هناك حركات اجتماعية مختلفة وتيارات سينمائية مواكبة لها. فالصرخة ضد الحروب كانت أعلى مما هي عليه اليوم و التظاهرات لصالح القضايا الاجتماعية على اختلافها كانت مؤثرة.  أما العالم فكان موزّع القوى بين ثلاث معسكرات: الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي ودول عدم الإنحياز التي كانت داعمة، بصورة فاعلة للعديد من الدول التي كانت تصون حريّـاتها واستقلالها من ذلك المعسكر فالعالم بأسره بدا كما لو كان يولد من جديد.
ولما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك النهاية  كانت المجتمعات متخوفة من شبح السقوط فيها من جديد  .أما الجيل الموالي  فكان منشغلا  بالبحث عن تجارب اقتصادية وعلمية وثقافية وفنية مختلفة من جهة ومن جهة أخرى  كان هنالك حديث عن ثورة في صفوف  النساء سرعانما تحولت الى  مطالبة بحريّـة للمرأة وبظهورها كعنصر فاعل وعامل في المجتمعات.
السينما كانت مثل  “الورق النشّـاف” الذي كنا نستخدمه لما كنا صغارا  لننشف الحبر الذي نكتب به ..فكانت   مشبعة ملمة كذلك  لمختلف متغيرات المجتمع .
 كل هذا أدى ، الى  انهيار نظام الأستديوهات إيذاناً بفتح المجال أمام حريّات التعبير المختلفة.
 ففي الماضي كان الاستديو  مجالا لتأّليـف كل الإنتاجات فالجميع كتّاباً ومخرجين وممثلين وباقي العناصر كانوا موظّـفين بأجور أسبوعية عملوا أم  لم يعملوا، وفي المقابل كان عملهم تنفيذ “الفورميلا” المطلوبة من كل استديو يعمل لديه (وهي فورميلا لا تتغيّر كثيراً من استديو إلى آخر).
وأمر آخر مهم هو انتهاء الرقابة في الدول المتقدمة ، بما فيها تلك التي كانت تمارسها هوليوود على نفسها وهكذا استطاع  المخرج  استكمال العنصر المقرر وفي أحيان العنصر المؤلّـف للفيلم (ولو إلى حين بعدما قامت الأستديوهات بهجوم مضاد على المنتجين الذين كانوا دائماً العقل المادي لكل عمل.
وفي أنحاء العالم كانت هناك سينما جديدة: في مصر، في لبنان، سوريا، العراق، تونس، فرنسا (حيث سبقت السينما ثورة 1968 الطلابية)، البرازيل، تشيلي، الولايات المتحدة، كوبا، بريطانيا، إيطاليا وغيرها من السينمات ..
كل ذلك دفع  العمل السينمائي إلى التحرر .
أما  النقد السينمائي في تلك الآونة فكان متمحوراً حول إتجاهين: نقد يستخدم الإنشاء لوصف الأفلام ونقد اخر محتشم كان  يستخدم السينما لوصف الأفلام. الأول بطبيعة الحال كان لا يرى ضيراً من الحديث عن المواضيع و”القضايا” و”الطروحات” حتى ولو دفع الأمر إلى استخدام نبرة خطابية وعاطفية، والثاني كان عليه القيام بالوظيفة النقدية مستخدماً العناصر ذاتها التي تكوّن الفيلم تقنيا وبصرياً وصوتياً تلك التي يعتمدها الفيلم ألفبائيات لغوية في تحقيقه وعليه  فانه لا يمكن الحديث أولاً عن “المضمون” بل عن السينما التي حوت المضمون.      

.لم يكن حولي من العرب الذين سبقوني إلى مزاولة النقد السينمائي من أمّ هذا الإتجاه الثاني سوى الراحل سمير نصري. أما معظم الزملاء في الصحف اللبنانية الأخرى فهم متدرّجون في اهتماماتهم من فريد جبر إلى عادل سابا ووليد شميط وجورج الراسي، كما في حجم اهتمامهم ولون اهتمامهم السينمائي أما  في مطلع السبعينات فقد سطع نجم  ناقد لم يتكرر إلى اليوم أسمه إدغار نجـّار.
وفي مصر كان النوع المنتشر من النقد  هو مزيج من الإتجاهين مع تغليب الأوّل لكن حتى أولئك الذين اهتموا بالمضامين أكثر كانوا يقومون بذلك  عن دراية وقدرة فائقة على ملاحظة الجوانب الفنية. تابعت، حينها، فتحي فرج وسامي السلاموني (رحمهما الله) ومصطفى درويش (الذي كان أقربهم  للاتجاه الفني) وسمير فريد ورفيق صبّان وشلّة أخرى معظمها توقّـف عن الكتابة اليوم.
“الأفلام كانت تهم» Movies mattered كما كتب، ذات مرّة،  ناقد آخر مشهور    ومحترف هو ديفيد روبنسون، واصفاً العقد الستيناتي.
 السينما اليوم مازالت  مهمة ولكنها في اتجاه اخر ..هناك فجوة عميقة بين النقد وبين المشاهد. طبعاً هناك قراء كثيرون للنقد السينمائي، ولكل ذوقه الخاص في قراءة  الشكل والنوع والمستوى الذي يراه مناسبا   لكل ما هو مكتوب، الا أن الحضور الجماهيري للنقد السينمائي كان أوسع وأكثر انتشارا وذلك بفضل الحضور الثقافي الذي ساد تلك الفترة على النحو الذي ذكرته آنفا.
لذلك كان النقد محصّـناً من ناحيتين: من مصادر العمل السينمائي المتجدد والمختلف في كل سينما حول العالم، ومن حلقة جماهيرية تواكب تلك المتغيّرات وتريد مشاركة الناقد الإطلال عليها والتعامل معها. لقد كانت  فرصة مهمة بالنسبة للمخرجين على اختلافهم للظهور خارج  الإطار المحلّـي وذلك بفضل الحالة الثقافية الجامعة.
 فما يجمع بين انغمار برغمن الراكن إلى حكايات الإيمان والريبة والمتعامل مع شطر جغرافي محدود، وبين ميغويل ليتين التشيلي الذي كان يسرد تاريخ النضال في بلاده وتلك المجاورة، وبين صلاح أبوسيف او حسين كمال الأول او عبد اللطيف بن عمّار من تونس او محمد العسكري من الجزائر وهال آشبي من الولايات المتحدة وعشرات الأسماء اللامعة حينها، هوالعمل تحت غطاء تلاحمت فيه الظروف الثورية (سلمية او غير سلمية) التي قام بها الإنسان نفسه (وليس التكنولوجيا او المؤسسات الصناعية الكبرى مثلاً) لخلق فهم جديد لعالم كان يعيش في كل ركن من أركانه حالة وعي وتطوّر كبيرين.
وعليه فان نسبة الإنتشار نظم الإنترنت وتكنولوجيا التواصل الإجتماعي باتت الكتابات في المجالات كلها تبدو أكثر انتشاراً اليوم مما كانت عليه. أقول تبدو لأنه لا إحصاءاً محدداً يكشف على نحو واثق من هم قرّاء الثقافة على المواقع العربية والعالمية المختلفة، لكن بالتأكيد هم أقل عدداً من قراء المجالات الأخرى مثل المواقع السياسية والمواقع الإخبارية وتلك المتخصصة في شؤون مخادع الممثلين ونجوم المجتمع ومواقع الدين والرياضة وسواها.
هذا لا يعني أن النقد السينمائي، والكتابة عن السينما ثقافياً، في تراجع ، بل على العكس هو بدوره أكثر تواجدا مما كان عليه.
 اليوم تقرأ هنا وتقرأ في المواقع كافّة مقالات سينمائية ولا ضير في ذلك بل هذا رائع بحد ذاته .أما  ما لا يحققه هذا الإنتشار هو وحدة التفاعل مع الجمهور الذي يتوجّـه إليه. فالمقالات تُكتب بمناسبة ودون مناسبة، التحقيقات تُـنشر بلا منهج محدد والقراء يطالعون ما توفّـر وعكس ما كان سائدا أثناء العصر الذهبي السابق حيث كان القرّاء يؤلّفون جبهة معروفة وحاضرة وقويّـة وذلك بفعل نظام ثقافي جدلي العلاقة ومتبادل الأفكار بين الناقد والجمهور. هذا بدوره كان نتيجة الوضع الثقافي العام الذي كان أثرى وأكثر تعميماً من كل وضع سابق او لاحق. وضع صنع السينمات الرائعة في أكثر من عاصمة عربية وهو صاغ التظاهرات السينمائية ومهرجاناتها الأولى. وهذا وسواه لم يعد متوفّراً الآن فقد تحوّل الجهد إلى ملء شاشات الإنترنت فقط .وما تقلص كثيرا هو التأثير خاصة  اذا ما قارنا المحتوى  مع ما كان يُـكتب  فقد بات لا يشكّـل نقطة لقاء حوله بل لا يُثير نقاشاً او يترك في الوجدان بالاً. بل بات مجرد نقطة عابرة في بحر الكتابات.


إعلان