الموت لا ينتظر أحدا!

قراءة نقدية في فلم “غوبل” للمخرجة الرومانية رالوكا ديفيد

عدنان حسين أحمد
لم ينبع فوز فلم “غوبل” للمخرجة الرومانية رالوكا ديفيد بجائزة أحسن فلم روائي قصير من فراغ، فهو الفلم الروائي الأكثر تميّزاً في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة بمهرجان الإسماعيلية السينمائي الخامس عشر. يقترب الفلم الروائي القصير في تقنياته الفنية من القصائد القصيرة جداً التي تحتاج إلى تركيز في الفكرة، وتكثيف في الصور البصرية الدّالة والمعبِّرة. يمكننا تلخيص القصة السينمائية بأن رجلاً يعود من برلين بعد ستين عاماً من غيابه إلى بيته وقريته الرومانية “دوروليا” لكي يرتِّب طقوس دفنه إذا ما وافته المنية، ولكن منْ منا يعرف متى يأتيه “هادم اللذّات ومفرِّق الجماعات”؟ إذاً، فالموت يدهمنا فجأة، ولا ينتظر من ضحيته أن يكون متهيئاً أو واقفاً على أهبة الاستعداد. من هنا فإن القدَر الذي يتساوى فيه الجميع هو الموت، ولا دخل للسلطة أو الجاه أو الثراء أو المنزلة الاجتماعية بتقديمه لحظة أو تأخيرة هنيهة. فكل البشر يتساوون أمام لحظة الموت، مثلما يتساوون في أبديتهم، ولا تنفع التوابيت الفخمة أو القبور المشيّدة في المحافظة على جثامينهم التي سوف تصبح طُعماً لديدان الأرض وحشراتها. قد تبدو قصة هذا الفلم مألوفة لأنها تحدث أمام المتلقين مئات وربما آلاف المرّات فكيف تتخلّص كاتبة السيناريو ومخرجة الفلم رالوكا ديفيد من خانق الموضوع المألوف الذي لا ينطوي على شيء جديد؟.

لابد لرالوكا أن تلوي عنق الفكرة لكي تقودها صوب الاتجاه الذي تريده، وهذا الأمر لا يتم إلاّ بضربة فنية تقود فيها المتلقين إلى ما ينسف توقعاتهم الاعتيادية فنرى صانع التوابيت الذي يعده بأفضل تابوت على وجه الأرض، والنائحات اللواتي سوف ينُحْنَ وهنّ يُسْمعنهُ مقاطع حزينة تقطّع نياط القلب، والمُلقِّن الذي سوف يقرأ على جثمانه بعض الصلوات التي قد تخفِّف عنه ظلمة القبر، وتؤنس وحشته حين تستعيده الأرض إلى رحمها الأزلي الأول. كل هذه كل الأحداث تقع ضمن سياقات الكوميديا السوداء المرّة واللاذعة. فعلى الرغم من كل الاستعدادات المشار إليها سلفاً إلاّ إن هذا الشخص الطاعن في السن يموت وحيداً وهو جالس على كرسيّه، وهذا هو لغز الموت الذي يأتينا فجأة ومن دون مقدمات. لم يقتصر نجاح كاتبة السيناريو ومخرجة الفلم على حبكة القصة السينمائية وليّ عنقها بطريقة فنية مذهلة حسب، وإنما تعداها هذا النجاح إلى براعة التصوير الذي كان مُتقناً وخالياً من الأخطاء، كما ذكر أحد أعضاء لجنة التحكيم لحظة إسناد الجائزة، فالمصور فاركاس فيليب كان متمكناً من أدواته التقنية إلى درجة لافتة للانتباه، كما أنه يتوفر على عين سينمائية ثاقبة لا تميل إلى تصوير الثرثرات البصرية التي تُثقل كاهل أي فلم إبداعي. لابد من التنويه أيضاً إلى أهمية الفوكلور الروماني بأغانيه المعبّرة، ورقصاته الجميلة، وصلواته الآسرة في مدّ قصة الفلم بزخم إضافي ينطوي على محمولات جمالية وفنية أمتعت المُشاهدين على مدار الفلم القصير الذي لم تجتز مدته العشرين دقيقة. بقي أن نقول إن رالوكا ديفيد هي خريجة، قسم السينما والتصوير والإعلام في معهد الفنون المسرحية والتلفزيون. عملت متطوعة في منتدى ترانسلفانيا لمدة ثلاث سنوات، وفازت بجائزة أفضل مخرج وسيناريست في مهرجان برينال للمواهب عام 2012. وقد سُلطت عليها الأضواء الإعلامية مجدداً إثر فوزها بجائزة أفضل فلم روائي قصير في الدورة الخامسة عشر لمهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي.
خلاصة القول إن الفلم الروائي القصير يجب أن يكون مُركّزاً ومُكثفاً، وعلى المخرج أن يستعمل لغة بصرية خالصة تحيل إلى السينما، وتنأى عن “الخطاب الأدبي” لكي توفر للمتلقي متعة بصرية وذهنية في آنٍ معاً. لابد من الإشارة إلى أن الأفلام الروائية القصيرة تصنع من قِبَل مخرجين مستقلين لا يتوخون الأرباح المادية، وتُنجَز لأفلامهم غالباً بميزانيات صغيرة جداً أو من دون ميزانية في بعض الأحيان، وهناك حالات نادرة واستثنائية جداً حينما تُسنَد ميزانية كبيرة لانتاج فلم روائي قصير! أما الأمكنة الحقيقية التي تُعرَض فيها هذه الأفلام الروائية القصيرة فهي المهرجانات المحلية والإقليمية والعالمية.


إعلان