صناعة الأطفال اليهود !
أمستردام – محمد موسى
في فيلمهما الأول، وربما الآخير، تقوم الشقيقتان الهولنديتان دانييل وماريان ديفيدسون بتسجيل رحلتهما الأولى الى إسرائيل، والتي تندرج تحت نشاط سنوي مثير للجدل تقوم به منظمة إسرائيلية تعليمية، تقوم بدعوة يهود من حول العالم لزيارة الدولة العبرية، مهيئة لهم برنامجا حافلا لا يقل جدلا، يسعى إلى تذكير أولئك الشباب والشابات اليهود بتاريخهم الصعب ويحذرهم من الآتي من الأحداث إذا لم يعوا ويتحدوا تحت راية الدولة الإسرائيلية. لن نعرف، من خلال سياق الفيلم الذي يحمل عنوان “صناعة الأطفال اليهود”، الكثير عن خلفيات المشتركين الآخريين في الرحلة، لكن المثال الذي تقدمه الشقيقتان الهولنديتان مثير للإهتمام حقا، هن تنتميان إلى فئة اليهود الاوربيين العلمانيين والذين إجتهدوا كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية لنسيان ما الحقته محارق الهولوكوست النازية بعلاقاتهم مع أوطانهم الاوربية، ليعودوا وينصهروا في نسيج تلك المجتمعات. بحيث إن علاقة الشقيقتان بدين اجدادهم لا تختلف كثيرا عن علاقة معظم مسيحيي هولندا بالديانة المسيحية والتي يمكن وصفها بإنها، ضعيفة للغاية او غير موجودة أصلا، فلا شيء يربط عائلة الشقيقتان بالديانة اليهودية، وإسرائيل بالنسبة للعائلة هي بلاد بعيدة يسكنها كثير من اليهود المتعصبين، وهي لا تمثلهم بإي حال من الأحوال. فلماذا الموافقة على الرحلة إذن ؟ هذا السؤال يرد على لسان والد الشقيقتان في الفيلم، والذي يمازح بناته بإنهما وافقا على الرحلة لانها مجانية بالكامل. لا تملك الشقيقتان إجابة حاسمة، سوا الفضول لزيارة الدولة العبرية، التي يربط كثيرين بين اليهود في كل مكان في العالم وبين سلوك هذه الدولة، بما يتضمنه هذا الربط من موقف يتضمن كثير من العداء ليهود عاشوا حياتهم كلها بعيدين جغرافيا ونفسيا عن إسرائيل.
يصل الفيلم التسجيلي الهولندي سريعا الى وجهته في العاصمة الإسرائيلية تل أبيب. تغلف الصرامة الشديدة سلوك الإسرائليين المشرفين على الرحلة والذين كانوا بإنتظار المجموعة الهولندية في المطار. لاحقا سنعرف ان هذه “الصرامة” هي مقصودة وإنها جزء من الرحلة “التثقيفية”، فالشباب الاوربي اليهودي “المدلل” عليه أن يتعرف على تركيبة الحياة في الدولة العبرية والتي يحيط بها الأعداء. بعد إستقبال المطار الصادم للمشتركين في الرحلة، تبدأ فقرات البرنامج، والذي يتضمن في أغلبه محاضرات عن دولة اسرائيل واليهود وتاريخهم. في واحدة من تلك المحاضرات يتم تشجيع الشباب الهولندي اليهودي على الزواج من ابناء الدين نفسه، فحسب المحاضر ستنقرض الديانة اليهودية إذا قام اليهود بالزواج من ديانات أخرى. يواجه أغلب المشتركين وخاصة الشقيقتان صعوبة كبيرة بتقبل هذه الأراء الحادة والمفروضة، فالحب والزواج، وحسب إحدى الشقيقتان،لا يخضع لحسابات الدين والهوية وإن هناك حدود للولاء، والتي تقف عند الخيارات الشخصية.

عندما يبدأ الحديث عن الهولوكوست تصل المجموعة الهولندية إلى تجانس لم يتحقق في فقرات برنامج الرحلة الآخرى، فالجميع يملك قصته العائلية الخاصة عن المحارق النازية، فأغلب المشتركين فقد كثير من إهله في تلك السنوات، كما إن قصص النجاة القليلة لأجداد البعض لا تقل تأثيرا عن تلك التي إنتهت بالحرق او الموت. في واحدة من اللقاءات التي نظمتها الجهة الحكومية المسؤولة عن الرحلة، تلتقي المجموعة بأحد الناجين من المحارق. يروي الرجل الذي تعدى الثمانين من السنوات ذكريات من أيام المعسكر النازي وكيف أنقذته الصدفة البحتة من المصير الذي قضى على أهله جميعهم.
يدفع الفيلم ثمن تضاؤل الحس النقدي المشكك أحيانا عند الشقيقتين تجاه الرحلة ونواياها وفقراتها، والذي يحدث ببطء في الجزء الأخير من زمن الرحلة والفيلم، فتتلاشى المسافة الفاصلة بين الشقيقتين والحدث الذي تصوراه والتي كانت مهمة كثيرا للمشاهد لتقييم ما يراه على الشاشة، فيغدو الجزء الأخير من الفيلم في مجمله هو نقل لفقرات البرنامج الدعائي الاسرائيلي المتعصب الى المتفرج، والذي يمر على المشتركين من دون اي إعتراضات او نقاش حقيقي، وخاصة بالجزء المعاصر الذي يخص علاقة اسرائيل بجيرانها العرب، فعندما يحضر جندي اسرائيلي ليروي تجربته في احدى الحروب الاسرائيلية الفلسطينية، لا يخطر لإي من المشتركين في مسائلة تلك الحروب والنزاع بمجمله وسجل الجيش الاسرائيلي فيه، بخاصة إن إضطرابات المنطقة في السنوات الآخيرة حظيت بتغطيات إعلامية واسعة في هولندا، كان فيها الإعلام الهولندي في مجملة مركزا على الإستخدام المفرط للقوة للدولة العبرية وانتهاكاتها الخطيرة للمواثيق الدولية التي تخص حقوق المدنيين الفلسطينيين.