روّاد الفلم التسجيلي
لندن / عدنان حسين أحمد
تناولنا في مقالٍ سابق “أسرار المختبر الإبداعي” للناقد الأردني عدنان مدانات، وتقصّينا من خلال تلك الدراسة سيرته السينمائية الذاتية بوصفه “مُخرجاً” وناقداً سينمائياً. وعلى الرغم من أنه لا يُحبِّذ وصفه بالمُخرج السينمائي لأنه تخلّى عن هذه المهنة وكرّس جلَّ حياته للنقد والتنظير السينمائيين، إلاّ أننا نجد أنفسنا مضطرين لتسميته بالمُخرج السينمائي طالما أننا نتناول تجربته الإخراجية المحدودة التي اقتصرت على أربعة أفلام تسجيلية قصيرة، وفلم خامس لم يجد طريقه إلى النور.
إنَّ ما يفسّر عودتنا إلى كتاب “السينما التسجيلية- الدراما والشعر” لعدنان مدانات هو احتشاده بالموضوعات الفنية، والرؤى النقدية، والمفاهيم النظرية التي لا يستوعبها مقال واحد من جهة، كما أن الكتاب يتضمن دراساتٍ نقديةً متخصصة من جهة أخرى تنظّر لروّاد الفلم التسجيلي في العالم من بينهم دزيغا فيرتوف، جون غريرسون، والتر روتمان ويوريس إيفنس وسواهم من المخرجين الذين تركوا بصماتهم على خريطة الفلم التسجيلي.
سبق لمدانات أن أصدر كتاباً نقدياً تنظيرياً أسماه “بحثاً عن السينما” 1974، وقد احتوى الفصل الثالث منه على أطروحته الجامعية التي تمحورت حول “الفلم التسجيلي، منهجه وتاريخه”، كما تكشف تلك الأطروحة القيّمة مكانة السينمائي فيرتوف، وأهميته، ودوره الإبداعي الذي فتح حواراتٍ موّسعة بين النقّاد والمنظّرين لهذا الفن الجديد آنذاك.

التسجيلي والروائي
يعرِّف السينمائي الروسي دزيغا فيرتوف السينما التسجيلية بأنها “شعر الوقائع”، فيما وصفها السينمائي الهولندي يوريس إيفنس بأنها “ضمير السينما”، مُشيراً إلى أنها وسيلة تعبير فنية عن الواقع. أما غريرسون فيقول عنها “المعالجة الخلاّقة للواقع”، لكنه يقسِّم هذه المعالجة مستويين أعلى وأدنى، إذ يحتوي المستوى الأعلى على المغزى، والمعالجة الخلاّقة، ووجهة نظر المخرج، أما الأدنى فهو الذي يؤدي وظيفة إخبارية تعكس الواقع.
يتوصل الناقد الحاذق مدانات إلى أن بدايات السينما الروائية تكمن في السينما التسجيلية، ويستشهد في اللقطات الأولى للأخوين لوميير التي عُرضت في أواخر القرن التاسع عشر مثل “وصول القطار إلى المحطة”، “طفل يتناول الإفطار”، و “خروج العمّال من المصنع”، ويبرِّر ذلك بالقول بأنّ هذه اللقطات جميعها مخادعة، لكنها تُخفي بين طيّاتها احتمالات نشأة السينما الروائية. ففي لقطة وصول القطار إلى المحطة وضع الأخوان لوميير أمهما على رصيف الانتظار، أي أنها “مثلّت” دور امرأة تقف بين المنتظرين، كما وضعا طفل أحدهما على مائدة الطعام الإفطار، وقد “مثّل” الطفل هذا الدور بشكل من الأشكال، كما لا يستبعد مدانات أن يكون احتمال خروج العمّال من المصنع مدبّراً لمصلحة التصوير. وهذا يعني بأنّ المخيلة الروائية قد تسللت إلى الفلم التسجيلي. وفي السياق ذاته يقدّم لنا مدانات مثالاً آخر لا يقل أهمية عن الأمثلة السابقة وهو فلم “نانوك ابن الشمال” لروبرت فلاهرتي الذي تقوم رؤيته الفنية على الملاحظة الطويلة للشخصية الرئيسية، وبأقل قدر من التقطيع المونتاجي، أي أن الواقع يفصح عن نفسه بواسطة المواد المصورة التي تمتلك بذاتها قوّة تعبيرية، ولا تتوسل بالمَنتجة لكي تضفي عليها دلالة رمزية ما. لا يستبعد مدانات أن يكون فلاهرتي قد طلب من الصيّاد نانوك أن يعيد تمثيل بعض الأحداث من حياته اليومية، وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أنّ المخرج قد عمل على تحقيق فلم تمثيلي “روائي” ضمن فلمه التسجيلي الذي استغرق العمل فيه سنة كاملة.

لا يسع المجال للتوقف عند كل الأمثلة التي أوردها مدانات، ولكننا سنشير بعجالة إلى الفلم الصامت الذي أنجزه المخرج الألماني والتر روتمان ويحمل عنوان ” برلين سمفونية المدينة الكبيرة” 1927 الذي صوّر فيه وقائع حياة المدينة خلال نهار كامل، ونجح في تركيب بنية سردية بواسطة الصور الواقعية التي تروي الأحداث الدقيقة لحياة الناس.
يتوقف مدانات عند أهم فلمين تسجيليين أنجزهما المخرج الهولندي يوريس إيفنس وهما “الجسر” الذي عُدّ “سمفونية بصرية” ودراسة فنية قيّمة للإيقاع المرتبط بحركة القطع والوصلات الحديدية التي يتكوّن منها الجسر. وفلم “المطر” الذي وُصف بأنه “قصيدة مرئية” ترصد حبّات المطر التي تشكِّل لوحاتٍ فنيةً على المظلات الواقية من المطر حتى تبدو هذه التشكيلات وكأنها مصنوعة بأنامل فنان تشكيلي مبدع.
العين السينمائية
يتوفر بعض فصول هذا الكتاب، ومُلحَقه على وجه التحديد، على معلومات قيّمة عن السينمائي الروسي فيرتوف الذي تخصص به مدانات، كما أشرنا سابقاً، وتبنّى بعض آرائه النقدية والتنظيرية المهمة في مجال الفلم التسجيلي. يشير مدانات إلى ظهور الجريدة الإخبارية المُصوَّرة في فرنسا عام 1908 بواسطة شركة “باتيه” التي رفعت شعار “نرى كل شيء، ونعرف كل شيء”، ثم تبعتها شركة “غومون” وقد أفضى هذا الأمر إلى اكتشاف أولى طرائق المونتاج، لكن مدانات يرى أن تلك الجريدة السينمائية ظلت تقصر دورها على الوظيفية الإخبارية الإعلامية آنذاك.
يذكر مدانات بأنّ فيرتوف قد عمل في عام 1918 بقسم الأخبار تلبية لدعوة صديقه ميخائيل كولتسوف، ثم ترأس قسم المصوريين الحربيين، وبعد ذلك أشرف على الجريدة الإخبارية وأخرج عدداً من الأفلام الإخبارية القصيرة التي كان يركّبها من وثائق سينمائية مصورة. لقد زادت هذه التجارب المبكرة من قناعة فيرتوف بدور السينما التسجيلية وأهمية المونتاج بشكل خاص كأساس في تعزيز اللغة السينمائية. كان تجارب فيرتوف رائدة وكبيرة في هذا الصدد، إذ أصدر “40” عدداً من المجلة السينمائية “الأسبوع السينمائي”، قبل أن يُصدر مجلة “الحقيقة السينمائية” عام 1922 وكان يحطِّم في كل عدد تقاليد الأخبار المصورة السابقة ويبتكر أشياء جديدة، وهذا هو سرّ تميّز فيرتوف عن السينمائيين المجايلين له. يقول فيرتوف عن العين السينمائية: ” إن المرتكز الأساس هو اعتبار آلة السينما كعين السينما التي هي أكثر كمالاً من العين البشرية، وذلك لأجل دراسة فوضى الظواهر المرئية التي تملأ الكون”.
يتناول مدانات فلم “الرجل ذو الكاميرا السينمائية” 1929 الذي يُطلَق عليه “السمفونية البصرية”، ويحلل جماليات خطابة البصري مع الأخذ بعين الاعتبار أنه أول محاولة لخلق فلم من دون سيناريو مسبق أو عناوين توضيحية أو مشاركة ممثلين.
حقق فيرتوف، كما يذهب مدانات، في فلم “سمفونية الدمباس” شيئين مهمين وهما “تسجيل المؤثرات الصوتية خارج الأستوديو وإجراء أول مقابلة سينمائية وعرضها على الشاشة بعد أن كان الأمر مقتصراً على الفلم الروائي وعن طريق ممثل”. فلأول مرة بدأ الإنسان ينطق في الفلم التسجيلي ويعبِّر عن أفكاره ومشاعره الأمر الذي جعل السينما التسجيلية قادرة على النقاذ إلى أعماق النفس البشرية.

أجرى فيرتوف سلسلة من التجارب المهمة الأخرى التي تمتد منذ عام 1918 وحتى عام 1930 وختمها بالقول: “كل منْ يحب فنّه يبحث عن جوهر أصوله التقنية”. وأكدّ بأن الفلم الجيد يصنع من مواد جيدة تماماً مثل البيت الجيد الذي يُصنع من آجرّ جيد، لكن بناء الأول ناجم عن الحذاقة المونتاجية علماً بأن المونتاج عند فيرتوف قائم على العين السينمائية والقوانين التي اجترحها لأسس مونتاج الصورة والصوت في الفلم التسجيلي. ونظراً لأهمية موضوع العين السينمائية سنقتبس الفكرة التالية التي دبّجها فيرتوف حيث يقول:”أنا العين السينمائية، إنني أصنع إنساناً أكثر كمالاً من آدم، إنني أصنع آلاف البشر المختلفين حسب رسوم وجداول مسبقة مختلفة. أنا العين السينمائية، آخذ من أحدهم يديه، الأقوى والأمهر، ومن الآخر آخذ قدميه، الأسرع والأرشق، ومن الثالث آخذ رأسه، الأجمل والأكثر تعبيراً، وعن طريق المونتاج أصنع الإنسان الجديد الكامل”. يطوّر فيرتوف إمكانياته حينما يكتشف الكاميرا المخفيّة التي ترصد الحدث وتسجِّله بحياد تام ومن دون أي زيف أو اختلاق، وهو الذي أفضى إلى مفهوم “تصوير الحياة فجأة”، ويرى فيرتوف بأن التكرار مستحيل على وجه الأرض.
يخلص مدانات إلى القول بأنّ فيرتوف كان يرفض كتابة سيناريو أدبي للفلم التسجيلي لأنه يقيّد المجموعة الفنية السينمائية، ويرى أن أساس الفلم التسجيلي هو المادة الواقعية. أما تعريفة النهائي للمونتاج فهو “التنظيم الفكري والجمالي للمادة المُصوَّرة”.
جدير ذكره أن فيرتوف قد أخرج عدداً كبيراً من الأفلام التسجيلية نذكر منها “الذكرى السنوية للثورة”، “تاريخ الحرب الأهلية”، “الجزء السادس من العالم”، “ثلاث أغنيات عن لينين”، “ثلاث بطلات”، “في جبال ألا تاو” و “أخبار اليوم”. لم يقتصر دور مدانات على التخصص بالتجربة الإبداعية لفيرتوف، وإنما تعداها إلى ترجمة كتابه القيّم “الحقيقة السينمائية والعين السينمائية”. وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن كتاب “السينما التسجيلية- الدراما والشعر” قد سدّ فراغاً في المكتبة السينمائية العربية التي تحتاج إلى هذا النمط من الدراسات التحليلية المعمّقة.