سينما النوع في مواجهة سينما المؤلـّف

هل يجب أن نختار؟

محمد رُضا

أمضيت الشهر الماضي بأسره، وحتى موعد سفري في السابع والعشرين منه إلى مهرجان فينيسيا وأنا أشاهد من ثلاثة إلى أربعة أفلام قديمة يومياً. كل مساء، بعد نهاية ساعات من الكتابة، أفتح صالة السينما على شاشة الكومبيوتر العريضة او على شاشة التلفزيون ذاتها وأختار من بين ما هو متوفّر من أسطوانات أفلام قديمة، او من بين ما هو متوفّر من أفلام على الإنترنت ما يحلو لي: أفلام وسترن أميركية مجهولة على أفلام كبار المخرجين الأوروبيين. كلاسيكيات كانت مفقودة على أفلام نالت جوائز ومنها إلى إكتشافات من سينمات مختلفة. النوعية ليست ذي بال. لن أحكم على أي فيلم من غلافه، مهما كان المفهوم السائد عنه او عن نوعه.
مع نهاية ذلك العدد من الأفلام وجدت نفسي أتساءل ما إذا كانت سينما المؤلّـف هي نتيجة وضع غير ذاك الذي قبلناه عن ظهر قلب ودافع بعضنا عنه بأسى. هذا التساؤل تجدد حين كنت أتحدّث مع مخرج تسجيلي فقال لي أن السينما الروائية الوحيدة التي يتابعها هي تلك المنتمية إلى سينما المؤلّـف وأنه لا يشاهد “السينما الأخرى مطلقاً” كما قال.
السينما الأخرى هي “سينما النوع» Genre والكلمة تطلق على الأفلام المقسّـمة إلى تصنيفات درامية او حسب أصناف وأشكال الدراما فيها. وهي إحدى عشر نوعاً:
أكشن Action
مغامرات  Adventure films
كوميديا  Comedy films
البوليسية Policier and Crime films
دراما Drama
التاريخية  History?/? Periodical Films
الرعب  Horror films
الموسيقية والغنائية  Musicals
الخيال العلمي  Science Fiction Films
الحربية War films
الوسترن  Western films

لكن هناك أنواعاً متفرّعة من الأنواع الأساسية المذكورة، فالفيلم نوار قد يكون منتسباً للأفلام الدرامية او للأفلام البوليسية. الأفلام الفانتازية قد تكون أيضاً من نوع الأكشن، وأفلام الكوميكس تنتمي بالضرورة لنوع الأكشن في حين أن أفلام السير الذاتية إما تاريخية او درامية محضة، وأفلام الوحوش هي فصيل الخيال العلمي. أما الميلودراما فتلك التي تحتوي على منتخبات من بعض هذه “الدراميات” معالجة بالممبالغات العاطفية او الإستعراضية.
هوليوود استندت على هذا المنوال من التقسيمات لما كان موجوداً من قبل في عالم الروايات الأدبية وأدب “البالب فيكشن” والسائد في القرن التاسع عشر كان القول بأن “فلاناً يستعد كتابة رواية تاريخية” او أن “الرواية السابقة للكاتب فلان كانت من النوع الكوميدي” (الى آخره).  وهذا لا يزال سائداً ومنتشراً بين الأفلام منذ مطلع القرن العشرين عندما صار ضرورياً التعريف بماهية الفيلم الجديد المنتج.

                             من فيلم الديكتاتور العظيم لشابلن

إلى جانب أن التعريف بالنوع هو طريقة سهلة للتعامل مع الجمهور الذي عادة ما يختار ما يعجبه من أنواع ولا يستجيب لأعمال يجهل كينوناتها، فإنه تحديد يشبه أضواء مدارج المطارات في الليل. فالطائرة تستخدم تلك الأضواء الخاصّة المصفوفة تباعاً لكي تقلع او تهبط وتعرف متى ستترك المدرج الرئيسي لتتوجّـه إلى آخر جانبي تتوقّف عنده. من دونها هناك اجتهاد غير محبب قد يؤدي إلى كارثة. في السينما الأميركية، تم النظر إلى عدم وجود دليل من النوع ذاته كاف لتحقيق فيلم لا يمكن أن يرتفع عن الأرض لأنه غير محدد النوع.
تحديد النوع ضرورة للتفاهم مع الجمهور بفئاته المتعددة. يتبع ذلك ضرورة تأمين أفضل “النوع” طالما أن ذلك ممكناً. فأنت كمنتج لفيلم “وسترن” مثلاً، تريد إنتقاء العناصر الرئيسية التي تستطيع تأمين شروط النوع وهذا يتضمّـن إختيار المخرج المناسب والخبير بهذا النوع او الممارس له- بنجاح- في مرّات سابقة.
هذا ما يلج بنا إلى عمل المخرج في هذا الإطار.
فيلم «الدكتاتور العظيم» لتشارلي تشابلن فيلم “نوع” لجانب أنه فيلم ممتاز مضموناً وشكلاً. ولو أن هناك نسخة تم صنعها فرنسياً تحت إدارة المخرج كلود زيدي مثلاً، لكان الفيلم رديئاً (تبعاً لأفلام زيدي عموماً) لكنه يبقى فيلم “نوع”. المسألة تختلف فيما لو قام ميشيل هنيكه (تجاوزاً لكل منطق) بتحقيق هذا الفيلم، فهو سيحققه على نحو مختلف تماماً ما قد يجعل الكوميديا مأساة او ما يجعلها نتاج الفكرة او المضمون وليس الحدث الماثل.
إذاً، أحد الفوارق الرئيسية هي الحدث وتتابعه مكوّناً “أحداثاً” والأحداث تكوّن الفيلم. في فيلم “النوع” فإن القصّـة وأحداثها تأتي في المقدّمة لأنها تتضمن الشروط التي سيُـباع الفيلم بسببها إلى الجمهور. لدى المخرج- المؤلّـف وسيلة للإختلاف: عوض التركيز على القصّـة وأحداثها سيركّـز على الفكرة وشخصياتها. سيعالج المادة بمنظوره كفنّـان لديه رؤية خاصّـة او موضوعاً يستند إلى تجربته فيه (كما الحال مع فيلم فرانسوا تروفو «400 ضربة»). المخرج النوعي ينتمي إلى تعليمات لا يمكن اللعب فيها، المخرج – المؤلّـف أكثر حريّة منه.
لكن في المقابل، جون فورد، ألفرد هيتشكوك، هوارد هوكس، فرد زنمان، وليام وايلدر، وهم مخرجو أنواع معروفون، لا يقلّون إبداعاً عن لويس بونويل او فرنسوا تروفو او الإنكليزي توني رتشردسون او مواطنه كن راسل او الأميركي ستانلي كوبريك.
لكن كل هؤلاء على جانبي الحدود وبصرف النظر عن اختلاف رؤيتهم لدور الفيلم ودورهم في الفيلم مبدعون. غير المبدعين، بالتالي، لا يمكن لهم أن يكونوا جميعاً من فئة واحدة. ليس كل المنفذين لتعاليم الاستديوهات في هوليوود مبدعين ولا كل المخرجين الذين يحققون أفلامهم تبعاً لرؤاهم مبدعين. ما يعني أن التصنيف الذي يؤازر هذا الفريق ضد ذاك ليس صحيحاً.
ما هو صحيح، حقيقة أن كل سينما غير هوليوودية وغير هندية اليوم مليئة بأفلام تنضوي إلى فئة الأفلام الذاتية او سينما المؤلّـف وهذا يفتح النقاش أمام ما إذا كان العديد من المثقّفين والسينمائيين العرب يقومون بالوقوف وراء تصنيف خاطيء فعوض تقسيم الأفلام إلى جيد ورديء، يقسمونها إلى ماهو “تقليدي” و”مؤلّـف” بغض النظر عن وجود الصالح والطالح فيهما معاً.


إعلان