“هزيمة الكبار”.. وثائقي يكسر سطوة أكبر شركات الموز في العالم

ما جرى للمخرج السويدي “فريدريك غرتين” مع شركة “دول فودس” (Dole Foods) المتعددة الجنسيات شيء لا يصدق، ولولا توثيق حكايته معها لظن من يسمعها أنها من نسج الخيال، وفيها من المبالغات الكثير.

فلا أحد سيصدق أن أكبر شركة إنتاج زراعي في العالم طاردت وجندت كل طاقاتها المالية ونفوذها السياسي لمنع فيلم وثائقي أنتجته شركة سينمائية صغيرة، ويدور حول الأضرار الناجمة عن استخدام شركة “دول فودس” مبيداتٍ كيميائية ممنوعة تلحق أضرارا فادحة بمزارعي الموز في نيكاراغوا.

في بداية فيلمه الوثائقي “هزيمة الكبار.. بناناز” (Big Boys Gone Bananas) يُذَكّر صاحبه السويدي مشاهديه بفحوى فيلمه السابق “بناناز” (Bananas) باعتباره الأساس الدرامي الذي بنى عليه فيلمه الجديدة.

بصوته وبعض المشاهد المقتطفة، يوضح المخرج تفاصيل عمله السابق، ففي اللحظة التي أراد فيها تقديم عرضه العالمي الأول في مهرجان لوس أنجلوس للفيلم الوثائقي، وجد نفسه محاصرا بمطالب تريد منع عرضه هناك، إلى جانب تلقيه تهديدات مباشرة من شركة زراعة الموز الأمريكية، بإقامة دعوى ضده قد تُدخله السجن، ثم تجبره على تقديم تعويضات مالية ضخمة، إذا لم يلغ فيلمه وإلى الأبد.

خسارة القضية.. بداية الحرب الغاشمة ضد الفيلم

يستذكر المخرج “غيرتين” الأسباب التي دفعته إلى عمل “بناناز”، وأهمها أنه أراد إنصاف المزارعين الصغار، بعد أن شاهد بعينيه وسجلت عدسته وفاة عدد منهم وإصابة آخرين بالعقم، فصار نسلهم مهددا بسبب ممارسات شركة أمريكية متعددة الجنسيات كل ما يهمها هو زيادة إنتاجها من الموز، والحفاظ عليه برشه بمبيدات كيميائية كانت تتسرب إلى أجساد المزارعين وأطفالهم.

لم يكن يتصور أن فيلمه سيُخيف شركة عملاقة، ولم يصدق أنها ستتدخل بكل قوتها لمنع عرضه في أي مكان من العالم، ومن أجل ذلك جندت كبريات وسائل الإعلام الأمريكية للإيحاء بأن الوثائقي “بناناز” قد بُني على معلومات كاذبة، وأن المحامي الكوبي الهارب من بلده لقّن المزارعين أقوالا ملفقة، وجاء بشهادات طبية مزورة، فالفيلم كله مفبرك.

شركة “دول”.. واحدة من أكبر شركات الإنتاج الزراعي في العالم

كتب هذا الكلام صحفيون كبار ونشرته صحف أمريكية قبل عرضه في المهرجان، والمفارقة المضحكة أن كل الذين كتبوا عن الفيلم ومعهم مدراء الشركة لم يشاهدوه، وكل ما عرفوه منه أنه وثق حياة مزارعي الموز النيكاراغويين، وقد نقل قرار المحكمة الأمريكية الذي جاء لصالحهم، وطالب أيضا الشركة بتقديم تعويضات لهم.

كانت هذه القضية الأولى في تاريخ القضاء الأمريكي التي تخسر فيها شركة متعددة الجنسيات قضية مرفوعة عليها من خارج حدودها، وهي بالنسبة لهم بادرة خطرة تسيء لسمعة الشركة وتهدد مستقبلها، فلم يرضوا وأحالوا سبب المشكلة إلى الفيلم ومخرجه السويدي، لا إلى ما يفعلونه هم بالمزارعين الفقراء.

لم يتوقف لحظة سيل الرسائل المرسلة من محامي الشركة للمخرج وشركة إنتاجه المكونة من أربعة أشخاص، لقد أرادوا إخافتهم.

“أنا أشعر بالخوف وأحتاج إلى مساعدة”.. نداء استغاثة

يصور الوثائقي “هزيمة الكبار.. بناناز” كيف كان الخوف يتسرب إلى منتجي الفيلم بعد قراءة كل رسالة تصل إلى مكتبهم، فمضامينها كانت مرعبة حقا ومبطنة بلغة حقوقية عصية على الفهم. لقد وجدوا أنفسهم في مواجهة عملاق لا يرحم، وصلت تهديداته حتى إلى وسائل الإعلام السويدية، وحاول بكل الطرق عدم نشر أي شيء عن الفيلم، باعتباره ما زال أمام المحاكم، ولم يحسم أمر إطلاق سراحه بعد.

الأمر الغريب الذي حير الشركة ومحاميها هو قوة المخرج السويدي ومن عمل معه، فكل هؤلاء وقفوا وقفة رجل واحد وأصروا على عرض فيلمهم بأي ثمن، حتى لو سجنوا وأجبروا على بيع بيوتهم وممتلكاتهم القليلة.

تناول الإعلام قضية الدعوى التي رفعتها شركة “دول” ضد الفيلم

وينبه في ذات الوقت إلى قوة التضامن الاجتماعي في أوساط الناس العاديين وحتى السياسيين، فبعد نقطة التقاطع بين الجهتين خرج المخرج “فريدريك غرتين” لأول مرة وأعلن للصحافة قصته مع “دول” وعرض جزءا لما يتعرض له يوميا.

تحدث “غرتين” بصراحة قائلا: أنا أشعر بالخوف وأحتاج إلى مساعدة، فعندما بدأت بعمل “بناناز” لم يكن في ذهني أني ألعب مع أخطر القوى، فكل ما كان يهمني ويرضي ضميري السينمائي هو عرض مشكلة فقراء من البشر كانوا بحاجة لمن يعرض حالهم على العالم.

عرض الفيلم في مجلس النواب السويدي.. وقفة تضامنية

بعد أيام من تصريحات المخرج “غرتين” تراجعت إدارة مهرجان لوس أنجلوس، وقررت عرض الفيلم في صالة بعيدة وصغيرة، مسبوقا بما قاله الصحفيون عنه من سوء قبل أن يشاهدوه. وفي السويد بدأت الحركاتُ اليسارية المطالبةَ بمقاطعة منتجات شركة “دول” في كل البلاد، وامتد الأمر إلى جوارها الإسكندنافي.

وفي تحرك غير مسبوق قرر مجلس النواب السويدي عرضَ الفيلم لأول مرة تحت قبته، وخرج عدد كبير من النواب، وطالبوا بوقفة تضامنية مع مخرجهم ورفضهم لتهديدات الشركة ضده وضد حرية التعبير.

لقد تشكلت جبهة قوية الآن مع “بناناز” أجبرت الشركة على التراجع المؤقت، غير أنها لم تسحب شكواها من المحكمة، مما يبقي أمر الفيلم وصاحبه بأياديهم، وفي حركة تكتيكية طالبوا بحذف بعض المشاهد، وخاصة قرار المحكمة الأمريكية بإدانتهم.

انتصار السينما على جشع الكبار

لم يتراجع فريق الفيلم أمام ألاعيب الشركة، بل إنه على العكس من ذلك قرر رفع شكوى ضد الشركة، واتهمها بممارسة التهديد وقمع الحريات الفكرية، وراح يعرض الفيلم، فزاد عدد المعجبين به، وفي مقدمتهم مزارعو الموز في نيكاراغوا الذين شاهدوه لأول مرة على قطعة قماش بيضاء صغيرة، فحركت مشاعر كثيرين منهم، حتى أن المحكمة طالبت بمشاهدة الفيلم قبل إصدار حكمها.

انتصر الفيلم الصغير “بناناز” على أكبر شركة إنتاج زراعي في العالم

وبعد أيام قليلة، اتصلت شركة “دول” بشركة إنتاج الفيلم، وسألت عن رقم الحساب المصرفي، لإرسال مبلغ الغرامة الذي أقرته المحكمة ضدها. لقد انتصر “بناناز” الصغير على أكبر شركة إنتاج زراعي في العالم.

وبانتصاره انتصرت السينما على جشع الكبار، ولم يعد للخوف مكان في قلب من صنعوا الفيلم، فالآن “هزيمة الكبار.. بناناز” بإمكانه اللعب مع الطيبين والفقراء. ليس “بناناز” وحده من نجح، بل حتى الفيلم الذي وثق حكايته العجيبة.


إعلان