فيلم” طابور” للمخرج الإيراني وحيد فاكيليفار

المعالجة الروحية بالضوء والحركة

علي البزّاز
الليل والحركة يسيران متعاضدين إلى ما تصبو اليه الدراما السينمائية في الفيلم” طابور” (جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع الفيلم الدنماركي”الإختطاف” في مهرجان مراكش السينمائي الدولي الدورة 12). الليل بمعناه المتداول الفيزيائي، والرمزي بما يتعلق بالليل الشخصي لجهة العتمة الروحية أو البدنية ( في الفيلم المرض الجسدي) اشتغالاً على ليل المعاني. الحركة بشقيّها الفعلي والرمزي: يُلاحظ الشخصية الرئيسة في الفيلم، (يجسّدها بدور مطلق الفنان محمد رباني بور)، تتنقّل في الليل على دراجة نارية لمكافحة  الصراصير بالمبيدات الكيمائية، من هنا،(ربما) تعاني من حساسية مفرطة من الموجات الكهرومغناطيسية، ومن ارتفاع في درجة حرارة الجسم، ما يضطرها إلى إرتداء بذلة من الألمنيوم والعيش كذلك في غرفة مغطاة بالألمنيوم كمادة عازلة وواقية في الوقت نفسه. لا تفارق رموز الحركة الفعلية الفيلم. يرتدي البطل خوذة الوقاية من حوادث السير دائماً، في المصعد والممرات، في غرفته حتى، تقابله وتحاذيه حركة القطارات. الحركة الرمزية.

 
تطرأ التغيّرات على الشخصية بعد حركة حسّية أو تطهير روحي، انتقال من حالة إلى أخرى:  المعالجة الروحية في مشهد رمزي محبوك بعناية بصرية، من قبل طبيب قصير القامة. يضع البطل وجهه داخل صفيحة معدنية، بمثابة تقمّصٍ للوجه الإنساني المختفي وراء قناع العذاب والخوف والمرارة، ثم، يُسمع صوت الرصاص يُطلق عليه، وهو يرتجف، في جعير روحي صامت، يستجيب  اليه صدره كله . قرار التخفيّ داخل الصفيحة غير منفصل عن التخفي داخل بذلة الإلمنيوم وعن الليل بوصفه حاجباً. تخفٍ ذو معنى دلالي يوجّه النفس البشرية التي تعاني الإهمال،  بمعنى التخفي مقترناً بالعيش المعزول داخل غرفة مبطّنة. أي تخفٍ داخل اختفاء مرادف التهميش والعزل. يُفضي التطهير من طريق حركة  رمزية،  إلى غرفة للتسلية، تُشبه مغارة ألعاب: كرة تحاكي العالم تذهب على سكة جيئة وذهاباً. نهاية الفيلم ترتبط مع بدايته، يعود الممثل إلى غرفة الألمنيوم ذاتها التي انطلق منها  في مشهد البداية، وهذه المرّة، لا ينام فيها بل يغادرها إلى النوم في العراء. كناية على تعافيه من مرضه الجسدي والروحي. الفيلم من دون حوار، يشتغل على التعبير والرموز. يجبُ على المُشاهد التحلّي بالصبر، بسبب الترهل في السيناريو ما جعل الحبكة السينمائية ثقيلة نوعاً ما. مثلاً، المشهد الختامي في الفيلم: النوم في العراء على سرير خشبي ومشهد البداية وبعض المشاهد الأخرى، التي تعاني من إطالة في التصوير غير مبرّرة درامياً. خارج تلك الملاحظة، يبني المخرج مادته مقتصداً في كلّ شيء، يسير إلى النهاية في بناء سلسلي محكم، لا يخلو من اتهام صريح إلى عالم البشر، بأنه ليس أفضل من عالم الصراصير، بل ثمة تعاطف مع  الحشرات، في تعزيز إحساس، بأن مهنة مكافحة الصراصير هي مفروضة قسراً، ولهذا، تعاني الشخصية من آلام نفسية، بسبب عملها خلاف أفكارها. مشهد رمزي جميل، فيه مقارنة الصراصير مع عالم البشر: يبحث رجلُ بذلة الألمنيوم متزامناً مع صوت الرعد، عن الصراصير داخل الجدران، مستعملاً سماعة جسّ نبض القلب البشري.

مشهد اللحم يحترق في المقلاة تصدر منه الفقاقيع، البحث عن الصراصير في ثنايا الكتب القديمة. ليس سهلاً راهناً إخراج فيلم من دون حوار بالمطلق، بناء السيناريو، مستهدفاً الاشتغال على الرموز ومستقطباً الإضاءة كمساعد اشتغال. الليل رغم كونه معتماً، لكنه يعجّ بالضوء، وعلى النحو هذا، عناية الفيلم بالإنارة. أجاد الممثل محمد رباني بور، إدارة التعابير الجسدية والروحية على وجه صامت معذّب، في ليل الوجه الإنساني المملوء ألماً وحنيناً إلى الشفاء الرمزي والجسدي. وهكذا، تبدو الشخصيات الأخرى في الفيلم ثانوية أو مساعِدة  في تسيير الدراما. النوم في العراء على مكان مرتفع خارج غرفة الألمنيوم، باتجاه المدينة، مقابل الحياة المادية، هو نوع من النور بمعنى الشفاء. فيلم “طابور”،  يتكلم في الرموز والإشارات التي تساعد الإنسان على الشفاء مستقبلاً الحياة.


إعلان