الفلم الإماراتي القصير

بين معالجة القضايا الإشكالية وأسطرة الموروث المحلي

لندن / عدنان حسين أحمد
لا يُجمِع النقاد والمتخصصون في الحقل السينمائي على طول الفلم الروائي القصير، لكن “أكاديمية فنون وعلوم الصور البصَرية” في بفرلي هيلز بكاليفورنيا تحصر مدة الفلم الروائي القصير بـ “40” دقيقة أو أقل، آخذين بنظر الاعتبار اصطلاحات وتسميات أخرى تدور في هذا الفلك، لكن مدتها الزمنية أقصر بكثير من الفلم القصير القياسي مثل الـ “Short subject” الذي يُعرض غالباً قبل الفلم الروائي الطويل في المهرجانات وحتى في صالات السينما الاعتيادية، والـ ” featurette”، وهو الفلم القصير، بحسب اصطلاح السينما الأميركية، الذي تتراوح مدته بين “20” و “44” دقيقة، وهو أطول من الـ “Short subject” وأقصر من الفلم الروائي الطويل. أما المركز الوطني للتصوير السينمائي بفرنسا فيعتبر مدة الفلم القصير “59” دقيقة، وهناك بطبيعة الحال أفلام قصيرة قد تصل مدتها إلى دقيقة واحدة كالأفلام التي تُعرض في مهرجان الـ “Filminute” وتوصف بالأفلام القصيرة جداً، ولعل القرّاء الكرام يتذكرون بأنّ أقصر فلم هو ” soldier body” للمخرج الأميركي ليز شولز ومدته “7” ثوانٍ لا غير، لكنه يروي قصة زوجين اضطرا إلى الافتراق عن بعضهما حينما سيق الرجل إلى محرقة الحرب العالمية الثانية. وفي أوروبا يخوض هذا الرجل غمار معركة شرسة، لكنه ينجو من الموت ويعود إلى زوجته التي تلتقيه في حافلة. ثمة أفلام روائية متوسطة الطول تتراوح مددها بين “25” و “35” دقيقة وهي رائجة في المهرجانات العربية على وجه التحديد، وربما تكون المهرجانات الثلاثة في الإمارات العربية المتحدة “الخليج، دبي وأبو ظبي” هي خير حاضنة لهذا النمط من الأفلام الروائية القصيرة.

هاجس الموت في بنت النوخذة
سنتوقف في هذا المقال عند فلمين روائيين قصيرين وهما “بنت النوخذة” للمخرج الإماراتي خالد المحمود، قصة وسيناريو أحمد سالمين، وتصوير عبد الله حسن أحمد، و “بنت مريم” للمخرج سعيد سالمين المري، سيناريو وحوار محمد حسن أحمد وذلك لثلاثة أسباب أولها أن الفلمين يعالجان موضوع الموت، وهو أخطر فكرة في الوجود على الإطلاق، كما أن القصة السينمائية في الفلم الأول تتناول أسطورة شعبية معروفة تتحول فيها بنت النوخذة إلى سمكة، فيما يستمد الفلم الثاني فكرته الرئيسية من الموروث الشعبي، أما السبب الثالث والأخير فهو المناخ المحلي الذي ينجح كاتبا السيناريو ومخرجا الفلمين معاً في خلقه وتقديمه للمتلقي كخطاب بصري يتوفر على معظم اشتراطاته الفنية الناجحة على الرغم من غياب اللمسة الاحترافية في تصوير الفلم الأول وحضورها بقوة في الفلم الثاني.

عروس الأسماك
قبل أن نلج في تفاصيل هذا الفلم القصير “مدته سبع عشرة دقيقة” لابد لنا أن نتوقف عند معنى “النوخذة” وهي كلمة مشتقة من الفارسية “ناخذا” وتعني قبطان أو قائد السفينة الشراعية الكبيرة. أما بنت النوخذة أو “الفسكر” فهي إحدى الأنواع الجميلة من السمك الذي يُنعَت بـ “عروس الأسماك” وذلك لجمال ألوانها، فلاغرابة إذاً حينما يربط البحّارة بين جمال السمكة من جهة، وجمال بنات نواخذهم من جهة أخرى، إذ تبدو هذه السمكة وكأنها حنّت زعانفها، ووضعت الكحل حول عينيها المستديرتين.
يبدأ المشهد الافتتاحي للفلم بالطفل محمد الذي نراه نائماً، بينما تنهمك أمه في إيقاظه بغية غسل وجهه، وارتداء ملابسه، وحينما يسألها عن السبب تخبره بأن أعمامه وأخواله سيأتون بعد لحظات قليلة، ثم يستفسر عن سبب مجيئهم فتحضنه وتنخرط بالبكاء فنعرف أن حدثاً مفجعاَ قد ألمّ بهذه العائلة.
كانت المرحومة متعلّقة بالبحر وتحبه كثيراً، بل أنها كانت تأخذ أطفالها إلى البحر كي يحبّوه أيضاً ويصبحوا نواخذة مثل أبيها. لم يستطيعوا دفنها ذلك النهار لأن الغروب حلّ سريعاً لذلك قرروا أن يواروها التراب صبيحة اليوم التالي بعد أن يصلّوا عليها صلاة الفجر. وفي مشهد آخر لافت للنظر يطلبون من أحمد أن يبحث لهم عن حصاة كبيرة لكي يضعوها على بطن الميتة في إحالة واضحة إلى الموروث الأسطوري الإماراتي الذي يجد قناعة ما في هذا الإجراء حتى وإن كان خرافياً. وتواصلاً مع فكرة الأحجار أو الحصى يدور حوار عميق بين الجدة والطفل تتحدث فيه عن بنت النوخذة المتوفاة التي تملأ جيوبها بالحصى وتنزل إلى البحر حينما يجن الليل، لا لتموت، وإنما لكي تتحول إلى سمكة، وثمة هاتف يقول لها: “كلما تمرّ موجة فوق رأسك أسقِطي حصاة من جيبكِ حتى تظهر لكِ زعنفة!”. وحينما يحتدم النقاش بين الطرفين نفهم أن أبا النوخذة قد ظلم نواخذة البحر كلهم، فلكي تكفِّر عن هذا الظلم لابد أن تصبح سمكة في البحر بحيث يصطادها كل يوم صيّاد فقير يضعها في التنّور كي يشفي غليله من أبي النواخذة كلهم.

طقوس وشعائر
يتوفر الفلم على جانب طقسي، ففضلاً عن طقسي الغسل والتكفين اللذين لم نرهما لأن المتوفاة امرأة، إلاّ أننا نشاهد طقس الدفن وما ينطوي عليه من شعائر وصلوات دينية معروفة لتثبيت الميتة على قول الحق، والرجاء من الله، جلّ في علاه، أن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، ولا يجعله حفرة من حفر النار، وأن يباعد بينها وبين جهنم كما باعد بين المشرق والمغرب، وأن يتجاوز سيئاتها، ويكفِّر عن ذنوبها، فهو الحي القيّوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم.
ربما يكون الطفل محمد هو الشخص المعني بكل الأحداث التي جرت مثل تحوّل بنت النوخذة إلى سمكة تتعذب بسبب ظلم أبيها للآخرين، أو موت الأم الذي هزّه من الأعماق، وأراد أن يقلِّد الموت أو يتخيله في الأقل حينما وضع حجرة كبيرة على بطنه ونام بينما كانت الدموع تسيل على خديه. أما ظهور السمكة في المشهد النهائي من الفلم فهو ضربة فنية بحق أكملت السياق الفني للحدث جملة وتفصيلاً لتنغلق دائرة القصة السينمائية التي تمثل في خاتمة المطاف الرؤية الإخراجية المبدعة لخالد المحمود الذي يعِد بالكثير مستقبلاً إن هو واظب على هذا الزخم الذي يتوفر عليه في حُب الفن السابع والانقطاع إليه.

بنت مريم . . لوعة الروح وعذاب الجسد
إذا كانت “بنت النوخذة” قد ماتت في الفلم الأول، فإن زوج بنت مريم سيموت، كما سيفارق عمّها معتوق الحياة تاركاً إياها لوحدها تواجه ضنك الحياة في مجتمع محافظ يحضّ على الالتزام بالعادات والتقاليد الاجتماعية المُتعارف عليها، وأكثر من ذلك فإن أم أحمد سوف تموت هي الأخرى تاركة ولدها المتعلّق بهذه الشجرة الأسطورية التي لا تكبر ولا تموت. لا يقتصر الموت في فلم “بنت مريم” على الإنسان، وإنما يتعداه إلى النبات، فشجيرة الليمون التي يحملها أحمد بين ذراعيه طوال مدة الفلم “27” دقيقة مُقتلعة من جذورها، لكنها ملفوفة بقطعة جنفاص فيها كمية من التربة المبللة بالماء، فهي بين الموت والحياة، إن صحّ التعبير، لكنها تنطوي على خيط من الأمل يعتمد على قراءة العم معتوق بعض الآيات القرآنية عليها لكي يمدّ فيها أسباب الحياة، ويجعلها نضِرة مثمرة.

الأرواح العطشى
أشرنا آنفاً إلى أنّ هذا الفلم يحيل إلى المناخ المحلي الإماراتي خاصة والخليجي عامة، ولهذا يستهل المخرج فلمه بقصيدة محكية تقول:”ثوب العطش جدا أرضك قاصف/ شال الحزن بإيدك طفل خايف/ زاد العوق ودعواي بين النصايف/ نبا غيمة فيها المطر واقف”. إذاً، ثمة عطش روحي وجسدي يقابله مطر مُرتَقب تحمله الغيوم الشتوية لتروي الأراضي والأجساد العطشى معاً، فالدلالة المجازية تتجاوز الأرض التي شقّقها العطش إلى الأرواح الجافة التي تدهمها الحاجة العاطفية وتضعها في دائرة اللوعة والعذاب. ينتقد الفلم منذ مطلعه فكرة تزويج الفتيات الصغيرات اللواتي لم يبلغنَ سن الزواج، فهذه الفتاة الصغيرة أخذوها بينما كانت تلعب مع الصغار في الحي “الفريج”، وغسلوا شعرها وجسدها، وكذّبوا عليها قائلين لها أن العيد سيأتي غداً، فحنّوا يديها، وألبسوها ثوباً أخضرَ مليئاً بالزّرّد، وتركوها تواجه موقفاً لم تألفه من قبل. لم يدم زواجها طويلاً، فسرعان ما مات هذا الزوج الطاعن في السن، فحملت حقيبتها المعدنية وعادت إلى بيت العم معتوق، هذا الرجل الأعمى الطيب الذي يقرأ الآيات القرآنية على رؤوس المرضى فيتماثلون إلى الشفاء. في مقابل هذه الفتاة التي تزوجت زيجة غير موفقة، وعادت بخفي حُنين نجد الفتى أحمد الذي يحمل شجرة الليمون التي لا تكبر ولا تموت، لكن الموروث الشعبي يقول بأنّ أمه سوف تشفى من مرضها إن قرأ العم معتوق على هذ الشجيرة التي لم تفارق الفتى أحمد، لكن العم معتوق يرفض أن يقرأ على هذه الشجيرة “الملعونة” التي يعرفها من كثب، فهي لم تدخل داراً إلاّ وجلبت له النحس والشؤم. وما أن يعود أحمد إلى البيت حتى يجد شخصاً يهمس في أذنه مُخبراً إياه بأن أمه قد ماتت، ولابد أن يتبادر إلى أذهان الجميع بأن العم معتوق كان بإمكانه أن ينقذ هذه الأم المريضة لو أنه قرأ على شجرة الليمون بعض الآيات القرآنية، ولأنه لم يفعل فقد فارقت الحياة إلى غير رجعة.

القصة المحبوكة
لقد أحسن كاتب السيناريو محمد حسن أحمد صنعاً حينما أنهى قصة الفلم بذات البداية التي استهل بها فلمه فقال: “إنّ كل الذين سألوا عنها عرفوا أنها ذهبت بعيداً، ولكن ستطلع في “الفريج” بنت جديدة مثل بنت مريم، وسوف تروي قصتها للأجيال القادمة” ثمة نواة لقصة حُب كان يمكن أن تنمو وتتطور بين أحمد الذي خاطب الفتاة قائلاً لها أن شعرها جميل، لكنها أجابته بأنها تقصّه كلما طال، ومع ذلك فثمة تعاطف واضح بين الطرفين، ومودة لا يمكن إغفالها. الفتاة المحبوسة كان تحيل إلى إدانة كاتب السيناريو والمخرج معاً إلى بعض أنماط القمع الأسري الذي تتعرض له المرأة بسبب العادات والتقاليد الاجتماعية. وفي الختام لابد من الإشادة بالفنانة السورية الشابة نيفين ماضي التي جسّدت هذا الدور وتألقت فيه مُعززة الرؤية الإخراجية الواعدة للمخرج سعيد سالمين المري. وفي السياق ذاته لابد من التونيه بدور طه العجمي سواء في الموسيقى التصويرية التي اختارها أو في المؤثرات الصوتية المعبرة التي انتقاها، أو في اللمسات المونتاجية التي تدلل على قدرته الاحترافية الواضحة. وفي الختام لابد من القول بأنّ الفلم الإماراتي القصير يسير بخطى حثيثة وواثقة نحو الفضاء الإبداعي الذي يتعزز بهذه النجاحات المتلاحقة التي تعِد بسينما إماراتية واضحة المعالم في السنوات القليلة القادمة.


إعلان