شراسة النقد السينمائي


أمير العمري

يعتقد البعض أن الكتابة بالسالب، أي عن الأفلام التي لم يعجب بها الناقد السينمائي، هي كتابة لا ضرورة لها، أي غير مفيدة، أو لا تساهم في تطوير النقد والسينما، وأن من الأفضل الاكتفاء فقط بالكتابة عن الأفلام التي يحبها الناقد، أي الكتابة بالموجب أو النقد الإيجابي، أي الاكتفاء بالتعبير عن جوانب التميز والجودة في العمل السينمائي.
هذه الدعوة (ذات الطابع الأخلاقي) يتلاقى فيها بعض السينمائيين (وهذا طبيعي) مع بعض “النقاد” الذين يؤثرون السلامة ويفضلون أن ينالوا رضا صناع الأفلام من منتجين ومخرجين وغيرهم، وبالتالي الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يزعج هؤلاء، أي الكف عن النقد السلبي، أي النقد الذي يبرز ويركز على الجوانب السلبية في الفيلم التي يرى الناقد أنها تسببت في ضعف العمل السينمائي وفشله في التعبير عن موضوعه من النواحي الفنية.
ويزعم البعض أن الكتابة بالموجب عن الأفلام أفضل لأنها تجعل الناقد يتألق، ويأتي بأحسن ما عنده، ويضعه في القطعة النقدية التي يكتبها، مما يجعلها أقرب إلى القاريء وإلى السينمائي.
صحيح أن الكتابة الإيجابية أسهل، وأجمل وأكثر سلاسة وأقرب إلى القاريء، وأكثر متعة للسينمائي صاحب الفيلم. ولكن الكف عن الكتابة بغرض إبراز الجوانب السلبية في عمل سينمائي (غير ناجح) جزء أساسي من وظيفة الناقد السينمائي. فليس بالإشادة بالأفلام الجيدة تتغير السينما وترقى، بل وأيضا بالكشف عن الجوانب السلبية في الأفلام التي لم تنجح، يتعلم القاريء والمشاهد والسينمائي، لأن المفترض أن يكشف النقد السينمائي عن جوانب خفية في سياق العمل السينمائي وفي عمق بنائه واستخدام السينمائي لأدواته استخداما خاطئا او مراهقا أو مبالغا فيه. أليس من حق القاريء أن يعرف رأي الناقد في أفلام بارزة ليس من الممكن تجاهلها ربما أيضا تحصل على جوائز كبرى في المهرجانات الدولية؟ ماذا لو جاءت هذه الأفلام رديئة؟ هل نتغاضى عنها ونصمت؟ وماذا لو جاء فيلم لمخرج أحببنا أفلامه السابقة ضعيفا مفككا، هل من دور الناقد أن يكتب عنه ويقومه أم يتجاهله تماما كأنه لم يوجد؟! .

الناقد فيليب فرنش

ويعتقد بعض من يقرأون النقد بل وبعض الذين يكتبونه أيضا، أن التعبير عن رفض الفيلم بكلمات قوية تخرج عن المعتاد، ليس من النقد، وأنه يتعين على الناقد أن يخفف من لهجته ويستعين بالألفاظ والكلمات الناعمة حتى لو كان الفيلم السينمائي نفسه استفزازيا أي كانت إدعاءات مخرجه أو مخرجته أكثر من أن يمكن التغاضي عنها، فبعض الأفلام التي تظهر بل وتعرض على شاشات بعض مهرجانات السينما وربما تحصل أيضا على جوائر، لا تستحق أن يطلق عليها “أفلاما سينمائية” بل هي أقرب إلى العبث بالكاميرا. وليس كل من أمسك كاميرا أو أجلس أشخاصا فوق مقاعد وقام بتصويرهم وإجراء مقابلات مطولة معهم، سينمائيا أو مخرجا أو فنانا، مهما كانت عظمة وأهمية القضية التي يبرزها أو يتبناها فيلمه أو يدافع عنها، فهذه أعمال لا يجب أن تندرج في إطار ما يعرف بـ”الإبداع الفني” أو السينمائي، بل مجرد تراكم استهلاكي إعلامي للتنويه بقضية ما وليس للتعبير عن “رؤية” مدروسة مسبقا ومخططا لها من طرف الشخص الذي يقدمها.
الغريب ان بعض هؤلاء الذين يستهجنون النقد السلبي ويصفونه أحيانا بـ”القسوة” لا يلتفتون إلى ما يكتب في النقد السينمائي الأجنبي أو الغربي تحديدا (الذي يعتبرونه عادة مقياسيا عبقريا لكل ما نكتبه!!). وقد يكون الأكثر قربا من الحقيقة أن هؤلاء لا يقرأون النقد السينمائي بلغات أخرى غير العربية، أو ربما أنهم يقرأونه ويرفضونه، باعتبار أن اللغة العربية التي هي جزء من الثقافة العربية، لغة محافظة ضمن ثقافة محافظة، لا يجب أن “تتجرأ” على إعلان الرفض بكلمات قاسية حتى لا تصبح “كتابة استفزازية، بل وحتى لو كانت القسوة “المزعومة” مبررة تماما في سياق التحليل والنقد العلمي وليس كيل الاتهامات والشتائم والتعامي العمدي عن رؤية الفيلم بتفاصيله وبنائه والتدليل عمليا على ما يخلص إليه الناقد من أحكام.
وكثيرا ما يسأل البعض: هل يجنح النقاد الغربيون إلى مثل ما نكتبه من كتابات هجائية قاسية؟ وقد وجه السؤال إلى كاتب هذه السطور شخصيا أكثر من مرة. والغريب أن الكتابات المنشورة يوميا والتي أصبح الكثير منها متاحا عبر شبكة الانترنت هي أبلغ رد على هؤلاء غذا كلفوا أنفسهم بالبحث والقراءة.
وإلى هؤلاء أسوق المثال التالي:
كان فيلم “الاشتراكية” للمخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار (81 سنة) هو آخر ما قدمه وعرض في مهرجان كان قبل عامين. ورغم سمعة جودار الفنية الراسخة، وتردد الكثير من النقاد (في الغرب والشرق أيضا، ومنهم من يكتبون بالعربية!) في “الاجتراء” على انتقاد أفلامه خشية أن يتهموا بالجهل، أو بالأحرى، رغبة منهم في الالتحاق بصفوف أولئك الغربيين الذين يشيدون بـ”العبقرية الفنية” والفلسفة العميقة، و”البناء السيمفوني، ورغم هذا كله، فقد كان هناك الكثير من النقاد الغربيين البارزين الذين وجهوا انتقادات شديدة لفيلم جودار، بل ووصفه بعضهم بأنه عمل غير مفهوم ولا معنى له، دون أن يخشوا الاتهام بالجهل.
هناك مثلا الأمريكي روجر إيبرت، وهو المناسبة، ناقد سينمائي وصحفي وكاتب سيناريو لامع يكتب بانتظام عمودا في النقد السينمائي في صحيفة “شيكاغو صن تايمز” منذ عام 1967 وهو أول ناقد سينمائي يفوز بجائزة بوليتزر.

من فيلم الاشتراكية

كتب إيبرت عن فيلم “الاشتراكية” في مقال نشره بالصحيفة المذكورة (بتاريخ 8 يونيو 2011)، فماذا قال في مقاله؟ لنقرأ بعض المقتطفات البسيطة من مقاله:
“مع فيلم “الاشتراكية” الذي أخرجه وهو في  في التاسعة والسبعين، انجرف رائد الموجة الجديدة الفرنسية إلى البحر. هذا الفيلم هو إهانة. إنه عمل غير متماسك، يثير الحنق، مبهم عمدا، ينحرف تماما عن الطرق التي يشاهد الناس من خلالها الأفلام.
أعلم أن هذا كله جزء من أسلوب جودار، لكني أرى أن من المهم تحقيق معادلة ما. نحن ندخل السينما بعقول مفتوحة وحسن نية، ونتوقع أن يشركنا جودار معه  على الأقل، ممكن أن يكون هناك غموض ولكن قابل للفهم. أما في فيلم “الاشتراكية”، فهو يتوقع منا أن نتحمل العبء كله.

عندما عرض الفيلم لاول مرة في مهرجان كان 2010، استقبل بخليط معتاد من صيحات الاستهجان والترحيب. وكتب المدافعون عن جودار مطولا عن مضمون الفيلم ومراميه، في حين شعر الكثيرون بصراحة أن الفيلم إهانة لهم.

في الفيلم مشاهد مجزأة مما يدور على ظهر سفينة في عرض البحر المتوسط، وأيضا لقطات تنتقل عبر التاريخ البشري، والتي لأغراض الفيلم، تشمل مصر، اليونان، فلسطين، أوديسا (وخاصة سلالمها الشهيرة)، نابولي وبرشلونة وتونس وموانئ أخرى. ثم نرى أجزاء من قصة تنطوي على امرأتين (واحدة منهما تصور بكاميرا تليفزيونية،  وأسرة تعيش في مرآب لتصليح السيارات على جانب الطريق. يعيش في المآب أيضا بغل ولاما. وهناك لقطات لقطط، ترتبط بشكل غامض بالمصريين، وكذلك ببغاوات. وربما تكون الباخرة تعبيرا مجازيا عن رحلة الإنسان عبر الزمن. أما المرآب فهو متروك للتخمين.

هناك حديث في الفيلم متقطع في كلمات منفصلة حول الاشتراكية، والقمار، والقومية، هتلر، ستالين، والفن، الإسلام، النساء، اليهود، هوليوود، فلسطين، الحرب وموضوعات كبيرة اخرى. كلها تبدو سياسية بشكل رائع، ولكن لا أستطيع أن أقول ما إذا كان لدى الفيلم أي شيء يقوله عن الاشتراكية”.

انتهت المقتطفات وأظنها لن تعجب عشاق جودار ولا أصحاب الذوق الرفيع في الكتابة عن السينما.
أما  فيلم “راقصة في الظلام” (2000) للارس فون ترايير فقد حصل على السعفة الذهبية في كان لأحسن فيلم ثم جائزة الأوسكار، وأشاد به الكثير من النقاد واعتبروه تحفة فنية عظيمة. ولكن كان هناك أيضا من كبار النقاد، من أهالوا عليه التراب بأقسى الكلمات أحد كبار نقاد السينما البريطانيين وهو أيضا مؤرخ مرمق ومؤلف لعدد من الكتب السينمائية ويكتب النقد السينمائي منذ خمسين عاما، كتب عن الفيلم في صحيفة الجارديان البريطانية (بتاريخ 17 سبتمبر 2000) يقول:
” عندما بدأ نزول العناوين النهائية لفيلم “راقصة في الظلام” في مهرجان كان تصورت في البداية أن صيحات الاستحسان والتصفيقلهذا الفيلم الموسيقي الاسكندنافي ليست إلا على سبيل السخرية، فكيف يمكن لأي شخص أن يعجب أو يتأثر بهذا الفيلم التافه الممل العقيم؟ وقد ذهلت عندما حصل مخرجه ومؤلفه (الذي أعجبت بالكثير من أفلامه السابقة) على السعفة الذهبية وحصلت بطلته بروك على جائزة أحسن ممثلة. وعندما قرأت أن جهاز العرض تعطل أو انقطع التيار الكهربائي عند عرض الفيلم فيما بعد في مهرجان إدنبره السينمائي، قلت لنفسي: نعم.. ربما كان الله في السماء، أو عامل الكهرباء في الأرض، يقول كفانا هذا العبث”!
وفي “الجارديان” أيضا، وهي من أكثر الصحف البريطانية رصانة وجدية نقرأ ما كتبه ناقد آخر بارز هو بيتر برادشو (بتاريخ 15 سبتمبر 2000) عن الفيلم نفسه. وقد بدأ مقاله على النحو التالي:
“بسبب وقاحته المطلقة وميلودراميته الزاعقة وتراجيديته الزائفة، يجب أن يكون فيلم “راقصة في الظلام” للارس فون ترايير أسخف فيلم لهذا العام، وأيضا أكثر الأفلام سطحية وفجاجة في تلاعبه بالمشاعر. إن كل شيء في هذا الفيلم سخيف، إبتداء من ظاهره بالسذاجة وحبكته المستحيلة، إلى تلك الابتسامة البلهاء الصغيرة المتعالمة الغامضة على وجه بطلته الضحية، التي أدت دورها “بورك” وهي نجمة غناء صادحة تملك القدرة على إفساد علب الحليب على مدى عشرة كيلومترا”!
وللقاريء أن يتخيل كيف يمضي المقال الطويل التفصيلي بعد ذلك. ولعل هذا يكون كافيا في الوقت الحالي لمن يريد أن يعرف ويتأكد، كما يمكنه بكل تأكيد، العودة إلى المقالات الأصلية!


إعلان