الحرب الخفيّة على الجنديات الأمريكيات

محمد موسى
تتجه عديد من الأفلام التسجيلية من السنوات العشر الأخيرة، وبالخصوص تلك التي تَهدف لتغيير مزاج الرأي العام وتنبيه والضغط على أصحاب القرار الرسمي، لنقل مَظلوميّة القضايا التي تُقاربها إلى فضاء أوسع، حيث وجدت في شبكة الإنترنيت ومواقع التواصل الإجتماعي بالتحديد المجال الأمثل، لإطالة عمّر النقاش الذي تطرحه تلك الأفلام، وإشراك أكبر قدر ممكن من الجمهور وجذب الأتباع. ولعل الضجة التي تثيرها أفلام القضايا هذه، تؤثر في الغالب على قراءة متأنية لها ولإسلوبيتها الفنية، بل إن وسمّها بأفلام “الحملات”، يُصنفها سريعا ضمن فئة خاصة من الأفلام التسجيلية التي تمثل لِكُثّر، مجرد “شَكوى” يتم تنفيذها بشكل فيلم او تحقيق تلفزيوني لغرض انساني او بيئوي واضح المعالم، وإنها بعيدة بالمطلق عن التجديد الفني او الإسلوبي. هذه التعميمات تغفل إن جوهر أي عمل فني هو التأثير في المُتلقي، وإن الأفلام من التي يطلق عليها “أفلام الحملات”، يمكن أن تَتضمن إضافات إلى الحركة الفنية المبتكرة للسينما التسجيلية المعاصرة.
من أفلام القضايا الإنسانية التي أثارت الإهتمام في العام الماضي فيلم ” الحرب الخفيّة” للمخرج الأمريكي كيربي ديك، والذي فاز بجائزة الجمهور في الدورة الأخيرة لمهرجان سنداس السينمائي الأمريكي. الفيلم يوجه الإنتباه للجرائم الخطيرة ( أطلق الفيلم وصف الحرب الخفية عليها) التي تواجهها المُجَندات الأمريكيات في الجيش الأمريكي من قبل زملائهن، والتي تترواح بين التحرشات الجنسية إلى الاغتصاب. كما يسلط الفيلم الإنتباه على الإهمال الرسمي وأحيانا التواطيء الذي تمارسه قيادات رفيعة في الجيش الأمريكي، لمنع معاقبة مرتكبي هذه الجرائم من الجنود الأمريكيين.
ولأن الجيش الأمريكي كمؤسسة عسكرية كان قد رفض التعاون بالكامل مع الفيلم، إتجه فريق الإنتاج للبحث عن نماذج من العسكريات المتعاقدات، واللواتي تركن الجيش الأمريكي للحديث عن تجاربهن المؤلمة، وأحيانا المروعة أثناء خدمتهن، كما قام الفيلم بإستضافة نساء من منظمات المجتمع المدني وناشطات نسويات، من اللوتي كَرسّن سنوات طويلة من حياتهن للدفاع عن مظلومية الجنديات الأمريكيات.
تكشف الأرقام والإحصائيات التي قدمها الفيلم، والمأخوذة من سجلات الحكومة الأمريكية، عن جدية المخاطر التي تواجهها العسكريات الأمريكيات، فحوالي 20% منهن تعرضن في سنوات خدمتهن إلى تحرشات جنسية. كما قدم الفيلم التسجيلي لقاءات مع جنديات خَدمّن في الجيش الأمريكي في السنين الأربعين الاخيرة،  والتي أظهرت إن المضايقات التي تتعرض لها النساء في المؤسسة العسكرية الاقوى في العالم، بدأت مع بدايات إنخراط النساء في الجيش الأمريكي قبل نصف قرن من الزمان، وهي متواصلة لليوم، هذا رغم المكاسب الكبيرة للحركات النسوية في العقود الثلاث الأخيرة، وعلى الرغم من شيوع وسائل الإعلام الحديثة ( إنترنيت ومواقع التواصل الإجتماعي)، والتي تُسهل كثيراً من وصول شكاوي ناس عاديين الى الإنتباه العام.

في مقابل الإحصائيات والتحليلات التي قدمها خبراء وخبيرات عن موضوعة المراة في الجيش الأمريكي، أفرد الفيلم مساحة واسعة لشهادات مؤثرة لجنديات مررن بتلك التجارب المؤلمة، والتي زاد من فداحتها هو الظلم الكبير الذي تعرضهن له من الجيش الأمريكي كمؤسسة رسمية عريقة، إذ عاملهن كعاهرات، وعاقبهن  أحيانا بسبب فعل الجنس مع جنود متزوجين، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الأمريكي، رغم إن “فعل الجنس” ذاك تم بالإرغام. لكن وبسبب عدم الرغبة في تسليط الضوء على الفضائح المستمرة، اختار عدد كبير من مسؤولي هذا الجيش أن يلقيّ اللوم على الجنديات.
يركز الفيلم على جندية أمريكية سابقة، تعرضت إلى الإغتصاب والضّرب، الأمر الذي ألحق إصابات بدنيّة مزمنة. فيرافقها الفيلم في حياتها اليومية والتي تدور في فلك الشكوى التي قدمتها ضد مغتصبها، كما يقدم الفيلم مشاهد مؤثرة عن الثمن الذي مازالت هذه الجندية تدفعه، فالاخيرة تخضع لعلاج نفسي وبَدني للمساعدة في التخلص من أثار التجربة العنيفة. كما إن وضعها النفسي يهدد حياتها الزوجية وعلاقتها مع إبنتها الصغيرة.
كما يُبرز الفيلم في حَيز منه، الخيبة الكبيرة لعسكريات سابقات من الجيش الأمريكي وقيادته. فهؤلاء اللواتي إلتَحّقن بالجيش للمشاركة في حمايته وخدمة بلدهن، إكتشفن سريعا جدا، وعبر تَجارب مؤلمة للغاية، إن العقلية الذكورية المتطرفة، وأحيانا المنحرفة، هي التي تتحكم بهذا الجيش. فينظم الفيلم في هذا السياق رحلة لبعض الجنديات السابقات، لنصب تذكاري يحتفل بمشاركة المرأة في الجيش الأمريكي. الرحلة هذه سَتُعيد تَذكير نساء الفيلم، بما فعلته تجربة الجيش بِهن، كما إنها ستكشف عن المسافة التي صارت تُفصلهن عن الجيش كمؤسسة رسمية.
يُطلق الفيلم حملة عبر الأنترنيت لجمع تواقيع من أجل الضغط على الحكومة الأمريكية لتشديد عقوباتها على العسكريين المتورطين، وهي الحملة التي حققت بعض النجاح، لكنها مازالت بعيدة عن إحداث تغييرات جوهرية. على الجانب الفني، الفيلم نجح في اقناع نساء عديدات للبوح بتفاصيل تَجاربهن المؤلمة في الجيش، لكنه لم يخرج عن إطار الشكل التلفزيوني التحقيقي السائد، وبدا إن قضية الفيلم فرضت الإتجاه الاسلوبي له، والذي لم يتجرأ على الاقدام على مغامرات فنية تَبتَعد عن المسّار التقليدي الذي إتبعه.


إعلان