اللامع المنسي دائماً: جاك تاتي
محمد رُضا
مشاهدة ماراثونية جديدة لأفلام جاك تاتي لا زالت قادرة على إطلاق المزيد من الإكتشافات الخاصّـة بسينما مخرج كان مختلفاً عن كل أترابه في زمنه ولا زال إلى اليوم.
في أيامنا هذه من السهل التنقيب عن تاريخ حياة جاك تاتي أو سواه ممن هم أقل تأثيراً منه بكثير. الصعب هو ربط تلك الحياة بما أفرزته من نتائج على الشاشة. هذه لا يمكن للوكيبيديا ولا لأي إنسايكلوبيديا أخرى الإقدام عليه لاختلاف مناهج مثل هذه المراجع عن البحث السينمائي في حياة أي مخرج وهو البحث الذي لا يمكن القيام به من دون مشاهدة فعلية لأعماله. على الأقل مرّتين، مرّة للتعرّف ومرّة للتعمّـق.
I مقارنة
كل عمالقة الكوميديا من بَستر كيتون إلى تشارلي تشابلن ومن الفرنسي ماكس ليندر إلى مواطنه جاك تاتي إعتمدوا على الحركة كمصدر رئيسي للتسبب في النكتة. هذا صحيح لما بعد الخمسينات عندما أوجد الأميركي بوب هوب مساحة أكبر للنكتة المعتمدة أكثر على الموقف والحوار، وهذا التزاوج مورس بعد ذلك من قِـبل وولتر ماثاو، جاك ليمون، فرنانديل وآخرين. الإستثناء عن القاعدة قبل الخمسينات إنحصر تقريباً بالأخوة ماركس. أعلم أن مكانة الأخوة ماركس كبيرة بين النقاد، لكن هذا لا يجب أن ينفي أن تشخيصهم الكوميدي اعتمد أسلوباً مسرحي الأداء (مُـستنتج من خلفيّـتهم المسرحية) ومبالغ في الإعتماد على الحوار. نعم الحركة كانت موجودة، لكنها لم تكن حركة المبدع الذي يريد التعبير عنها لأنها تحل محل الكلمة، وكل ما هو يحل محل الكلمة هو أنقى تعبيراً لأن السينما فن صورة أولاً وأساساً، بل حركة مسكوبة في إطارها المسرحي التام ومٌعـالجة، كتكنيك تنفيذ ومونتاج، على هذا الأساس في معظم الأحيان.

جاك تاتي ينتمي بشدّة إلى السينما الصامتة، تلك التي لم يكن ممكناً إثارة النكتة الا بالحركة. عندما يسحب شخص يلعب الورق مع بَـستر كيتون مسدّسه ويصوّبه إلى رأس الكوميدي كان لابد من معرفة السبب. هنا تظهر عبارة: “إضحك” وترد عليه بطاقة حوار أخرى: “لا أعرف كيف”. لكن قدّم بطاقتي الحوار من دون الصورة فإنها لن تفعلا أي شيء يذكر. لن تثير أي رد فعل من أي حجم كونها غير مسنودة بالحركة التي قد لا تزيد عن وجه الشرير المقتضب ووجه كيتون الذي، عن قصد، ضد حمل أي تعبير.
جاك تاتي المولود سنة 1907 (والذي توفى بعد 75 سنة) لم يحقق أفلاماً صامتة. عندما قام بتحقيق أول فيلم له سنة 1947 كانت السينما شبعت نطقاً. وكان يعتاش من وراء أدوار صغيرة (أحياناً بدون ذكر إسمه من شدّة صغر الدور) لكي يعيش ويؤمّـن إدمانه على الكحول. تشارلي تشابلن بدوره لم يكن في أفضل حالاته. في تلك السنة كتب وأنتج وأخرج فيلماً متوسّـط القيمة (والبعض يعتبره أقل من ذلك) بعنوان «مسيو فردو». وسيكون هذا الفيلم هو وحيده حتى العام 1952 عندما عاد بفيلم أفضل نوعاً هو «أضواء المسرح» جلب له بَـستر كيتون ليسند إليه دوراً مسانداً بدا فيه إنه نوع من إظهار سيادة الأول على الثاني.
جاك تاتي أخذ من كيتون ولم يأخذ من تشابلن لكن حتى مع ذلك، ما أخذه هو تمهيد لتكوين جديد. نعم وجه جاك تاتي لا يحمل تعبيراً، كما كان وجه كيتون، وصحيح أن الحركات تتشابه في أسبابها (صدفية تضع بعض أدوات الحياة في طريق الكوميدي ليستغلّـها على النحو الذي يُريد)، لكن تاتي بلور ما يكفي من صياغة وشخصية بحيث أن الناظر إلى أفلامه لا يستطيع أن ينزع منها “تاتيّـتها” مطلقاً.
II أعمال
أول فيلم لجاك تاتي، بعد سلسلة من الأفلام القصيرة التي مثّـل أو كتب معظمها من العام 1939 كان «يوم العيد» Jour de fête سنة 1949. تقع أحداثه في محيط بلدة فرنسية تقليدية. فرنسوا (تاتي) هو ساعي البريد نراه ينتقل في يوم تشهد فيه البلدة إحتفالاً كبيراً، لتسليم البريد في موعده المحدد. في الواقع ما نتابعه ليس فرنسوا فقط بل الحياة من خلال فرنسوا أيضاً. هذا المنوال متوفّر في أفلام تاتي اللاحقة، فعين المخرج (تاتي) على المحيط الذي يمرر به الشخصية الرئيسية التي يقوم بها بنفسه. هنا أسمها فرنسوا وفي باقي أفلامه، بإستثناء آخرها (وهو تلفزيوني الإنتاج بعنوان «إستعراض» قام بتحقيقه وتمثيله سنة 1974) هو مسيو هولو (بالإنكليزية) أو “أولو” (بالفرنسية).
«يوم العيد» حمل لجانب ذلك مزايا أخرى مهمّـة في طليعتها أن بطله لا يحب الكلام كثيراً. وسيحب الكلام أقل بكثير لاحقاً. المشكلة التي واجهت هذا الفيلم هي أن تصويره وقع قبل عامين من عروضه التجارية. سنة 1947 أخرجه تاتي ليكون فيلماً ملوّناً، لكن النظام التقني الذي اتبعه الإنتاج لم يثمر عن نوعية جيّـدة فأنتهى إلى الأبيض والأسود. لو تم لتاتي ما أراد لكان فيلمه هو أول فيلم ملوّن فرنسي النشأة. لكن السبب في أنه لم يجد موزّعاً لا علاقة له بالألوان، فكل الأفلام الفرنسية آنذاك (وكثير منها لسنوات عديدة بعد ذلك) كانت غير ملوّنة. ما كان غريباً على الموزّع الفرنسي التعامل مع كوميديا ناطقة تعتمد أسلوباً صامتاً في صياغتها. وفي الحقيقة لم ير الفيلم نور العرض في فرنسا الا من بعد أن عرض في لندن سنة 1949 بنجاح باهر.
بعد ذلك غاب المخرج حتى العام 1953 حين قدّم أوّل “هولو” عبر فيلم نيّـر، وبل رائع أسمه «عطلة مسيو هولو” وفيه نرى تاتي وقد أتى بشخصية جديدة ومفاجئة. إنه رجل عادي يرتدي معطفاً كبيراً (في عز الصيف) ويدخّـن الغليون وينزل في فندق صغير في مواجهة شاطيء البحر. معه في ذلك الفندق (وهو فندق لا يزال موجوداً لليوم) نزلاء آخرين. تاتي يتقصّـد نبش المفارقات التي تكشف عن نقده لنظام إجتماعي دفين في عمق مشاهده. يحوم مصوّراً ما لا يزيد، في بعض الأحيان، عن هفوات لينفذ منها إلى قعر المشكلة كما يراها: علاقة مثيرة للجدل بين الكبار والكبار كما بين هؤلاء والصغار. تاتي، إذا ما لاحظنا، كان قليل الثقة بذكاء الناضجين من الناس. دائماً ما هم شكليون متمسّكون بتصرّفات من يخشى السقوط عن كرسيه إذا ما غيّـر جلسته.

لاحقاً في «عمي» (عن هولو العائد من أميركا لضيافة شقيقه) سنة 1958 سينتقل إلى نقد العصرنة كما العائلة. هولو يصل إلى منزل تم تصميمه لكي تعمل بعض أدواته تلقائياً (نافورات المياه في حديقة المنزل مثلاً) ومع وصوله يبطل مفعول عمل كل تلك الأدوات على نحو أو آخر. في الوقت الذي كان يُـجيّر تاتي هذا الوضع لصالح مواقف كوميدية شبه صامتة، كان لا يزال يراقب التكوين العائلي التقليدي في جموده. البرجوازية الفرنسية المقطوعة من جذور الحياة كما يجب أن تكون.
هذا الفيلم شهد نجاحاً تجارياً عالمياً ونال الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي. مناسبة استغلها تاتي لكي يطلب من الأكاديمية تدبير زيارات للقاء لثلاثة كوميديين من عباقرة الأمس هم ماك سانيت وستان لوريل وبَستر كيتون. هذا الأخير إعتبر أن عمل هذا الأخير على الصوت هو إمتداد حقيقي للسينما الصامتة.
بعد ذلك أنجز تاتي تحفتين لاحقتين هما «زمن اللهو» Playtime العام 1967 و«حركة مرور» Traffic سنة 1971. هذا الثاني كان، إلى حد، ترداداً لصدى «زمن اللهو» الذي حاول فيه تاتي التخلّـص من شخصية هولو بدمجها بين شخصيات أخرى. الجمهور لم يرغب بذلك، لكن الجمهور كان يريد لهولو أن يستمر في الواجهة. وهذا ما اضطر تاتي لتحقيقه في «حركة مرور». بالنسبة لكثيرين هولو أصبح الوحش الذي ابتدعه فرانكنستاين، لكن هذا حتى ولو كان صحيحاً، لا ينفي أنه كان وحشاً جميلاً.