“راقص الأعالي”..
في العلاقة بين الهنود الحمر وبناء ناطحات السحاب
قيس قاسم
ثمة سرٌ ما أو غموض يحيط العلاقة الخاصة بين الهنود الحمر من قبائل الموهوك في أمريكا وبين اختيارهم العمل في مجال شَّد سقالات وتركيب الأعمدة الحديدية المستخدمة في بناء ناطحات السحاب. فوفق المعطيات الرسمية شَكَل الهنود الأصليون النسبة الأعظم بين عمال البناء في هذا الحقل وان العقود الثمانية الأخيرة من تاريخ العمارة الحديثة، بخاصة في مدينة نيويورك، شهد تواجداً ثابتاً لهم وانتقالاً منظماً لأجيال متعاقبة من عمالهم الأوائل، وهناك اجماع بين شغيلة البناء والمهندسين بأنهم الأفضل، لإمتلاكهم موهبة توازن فطرية غريبة وبأنهم لا يخافون المرتفعات مطلقاً! .
“لا يخاف الهندي الأحمر العمل على ارتفاعات عالية ويمشي فوق السقالات الحديدية مثل القط”! لو أرادت الأمريكية كاتيا أسون لفيلمها الوثائقي” راقص الأعالي” اقتصار بحثها في سطح الظاهرة، دون باطنها، لإكتفت بشهادات بعض العمال الهنود وما نقلوه لها من توصيفات شاعرية لإحساسهم بالحريه المطلقة التي يولدها عملهم في ربط الأعمدة الحديدية للطوابق العلوية من ناطحات السحاب ومقاربتهم لها بذات الشعور المتولد من صعود قمم الجبال العالية في موطنهم الأصلي. لقد صار انسجامهم مع علوها المتكبر، وعبر تراكم زمني طويل، جزءاً من تكوينهم النفسي والجسدي وعنصراً من عناصر تجمعهم الإثني. لقد ترسخ عميقاً في دواخلهم احساس بالتحدي لمخاطر التسلق فكان التفكير بترويض أجسادهم واحداً من الأدوات الأكثر فعالية لكسر حاجز الخوف وبالتالي التفوق على الطبيعة القاسية. يملك هذا الموضوع لوحده عناصر الإثارة والتشويق ومع هذا ذهبت أيسون أبعد منه بكثير وراحت تبحث عن سر آخر غير ذاك سيما وأن الأمر لا يخلو من مخاطر جدية، فالكثير من هؤلاء العمال قد سقطوا أثناء عملهم وماتوا شباباً، ما يزعزع بعضاً من يقين كلي بتوافق هذا العمل مع قدراتهم الفطرية.

أغلبية العمال جاءوا من المحمية الهندية الطبيعية الفاصلة بين الحدود الأمريكية والكندية: اكوبيساسني. الغاية من حمايتها كان الحفاظ على التاريخ الطبيعي للهنود الحمر وعدم تعرضها للدمار والزوال كبقية مناطقهم الأخرى، ومع ذلك إخترقتها قوانين السوق الرأسمالي دون إرادتها ففُتحت الأسواق التجارية الكبيرة والملاهي ونوادي القمار فيها بما لا يتماشى لا مع الهدف من حمايتها ولا مع مستوى سكانها الإقتصادي. فسكان المحمية وبسبب من تركيبتها الإثنية وعدم اقامة مشاريع صناعية كبيرة قريبة منها ظلوا فقراء، ليست أمام رجالها فرص عمل إلا تلك التي مارسها من قبل؛ آباءهم وأجدادهم في المدن الكبيرة، البعيدة: عمال بناء لناطحات السحاب. بالخيط “الاجتماعي الاقتصادي” أمسكت أيسون وراحت تتابعه عبر ملازمتها لعدد من العمال الهنود القادمين من المحمية للعمل في إحدى أكبر ناطحات السحاب في مانهاتن لتتوصل الى حقائق ومعطيات ذات تماس شديد بهما.
يفرض عليهم، بعد المسافة بين محميتهم وأماكن عملهم، الاقامة جماعياً في كابينات بسيطة ورخيصة طيلة أيام العمل منتظرين تعويض بؤسها في عطلة نهاية الاسبوع عند عوائلهم وفي بيوتهم الأليفة. الرحلة الإسبوعية بالسيارة على الطريق السريع تستغرق ست ساعات. وقت مستقطع من زمن لقاء لا يكفي سد غيابهم الطويل ما يترتب عليه من تبعات اجتماعية ونفسية، والمقابلات مع نسائهم وأطفالهم في المحمية عبرت عن إحساسهم بالفراق والخوف من ملازماته. مثل بقية المجاميع العرقية يميل الهنود الحمر الى الاقامة وقضاء أوقات فراغ بعد الشغل سوية بالحديث وفي تناول المُسكرات، التي يدمن الكثيرون منهم عليها، وبسببها يتعرضون لحوادث خطرة ويسقط قسم منهم من علو شاهق بسبب قلة تركيزهم، ليطرح معه السؤال التالي: ما الذي يجبرهم على هذا العمل الخطير والسكن البعيد؟ من الحقائق التي يتوصل اليها الوثائقي أن سكان المحمية وبسبب قلة فرص العمل وانخفاض مستوى التعليم فيها ووقوعها على الحدود يضع سكانها بين خيارين: العمل في تهريب البضائع والبشر بين كندا وأمريكا وبالتالي تعريض أنفسهم للمساءلة القانونية أو الإنخراط في نظام البطالة المقنعة، الوظائف المتوفرة فيه لا تكفي لسد مصاريفهم وحاجاتهم الحياتية، ولنفس الأسباب وفي محاولة لتأمين مصدر رزق أطفالهم مستقبلا سيعلمونهم أصول المهنة ويغذون فيهم حب تسلق المرتفعات والعمل في الطوابق العلوية من ناطحات السحاب. وفي مسار متوافق مع حالة المحمية الاقتصادية سيجد الأولاد فرصتهم الوحيدة في العمل خارجها وفي نفس المهنة الخطرة والبعيدة التي توارثوها.
على غير المتوقع تحضر أحداث الحادي عشر من سبتمبر في “راقص الأعالي”، وبعد تفكير ستجد مجيئها يتساوق مع طبيعة الحدث ومهنتهم. فهم عمال بناء الناطحات والتي هوجمت واحدة منها. بناية بذلوا جهوداً في تشييدها ونزت أجسادهم عرقاً على سقالاتها الحديدية وفي لحظة شاهدوها تنهار أمام أعينهم. سقطا برجا التجارة العالمي في اللحظة التي كانوا يعملون بجوارهما، فصاروا شهوداً على نهاية بنايتين ونهاية ذكرياتهم فيها. زُج الحدث في سياق بحثهم عن الهوية الوطنية. فالهندي الأحمر كثير ما يشار اليه كأمريكي من الدرجة الثانية، طارئء وغير منسجم مع الأمركة الجديدة المُشيدة على حساب وجودهم البشري، في حين يشعر الكثيرون منهم بإنتمائهم الى هذا البلد الذي لا يعرفون سواه وما جرى في سبتمبر رفع منسوب الإحساس بوطنيتهم في اللحظة التي نزلوا للبحث فيها عن الأحياء بين ركام البرجين وحسب وصف أحدهم “بالأمس كنا بناة البناية واليوم نحن شهود على دفن سكانها”. دون شك تعمير المدن يخلق آواصر بين البنائين وبين ما يشيدوه فوقها والهندي في هذا السياق منسجم ويشعر بتكامله لكنه يجد صداً في الجانب الآخر ما يزيد من احساسه بالقهر فيزداد ميله للذهاب الى الطبيعة الأم، تعويضاً، وهو ما يدفعهم الى قطع المسافات الطويلة من أجل الوصول الى محميتهم وتسلق جبالها العالية بملأ إرادتهم، وليس تحت ضغط الحاجة المذلة.

تُذكر لقطات كثيرة من وثائقي كاتيا أسون المهم بالصورة الفوتوغرافية الشهيرة “غداء فوق ناطحات السحاب” التي التقطها عام 1932 المصور تشارلز كلايد إيبت وتُعد اليوم واحدة من كلاسيكيات الفنون البصرية. تذكرنا لقطاتها بالفرق أيضاً بين ما توفره ع��سة الكاميرا السينمائية مقارنة بالفوتوغرافية، فكثير من لقطات “راقص الأعالي” يمكن وصفها دون مبالغة بتحف بصرية نجحت في نقل الإحساس الغامض بالمرتفعات الى قلب المشاهد وقربت حجم المخاطر الحقيقية التي تحيط بعمل الهنود الحمر، بناة ناطحات السحاب والمدن الأمريكية.