مالك بن جلول.. فيلمه الوثائقي ينافس على الأوسكار

 “البحث عن الرجل السُكَر” أجمل حكاية سمعتها في حياتي
قيس قاسم

فَتحَ النجاح، الذي حققه فيلمه الوثائقي الطويل “البحث عن الرجل السُكَر” والمتنافس على نيل جائزة أفضل فيلم وثائقي ضمن مسابقات الأوسكار لهذا العام، الأبواب أمام الشاب السويدي المغربي الأصل مالك بي جلول لدخول عالم السينما وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر. موهبة لافتة تجسدت في فيلم آسر ومثير عن مغني الروك الأمريكي سيكستو دياز رودريغز الذي ظهر في بداية سبعينات القرن الماضي، بنمط غير مألوف من الغناء قابله الناس وشركات تسجيل الاسطوانات الموسيقية بالتجاهل والصد لكنه اُستقبل في مكان آخر بعيد، في جنوب أفريقيا كنجم أسطوري وتداول المناهضون لسياسة الأبارثيد والعنصرية أغانية واسطوانته بسرية بعد أن منعتها حكومة الأقلية البيضاء. لم يعرف الأفارقة الجنوبيون أن الرجل الذي يعشقون سماع أغنياته وملهم نضالهم بأنه مجهول في بلاده يعمل في بناء البيوت وترميم المنازل ليوفر لقمة عيشه، ظهر على ضفاف نهر ديترويت فجأة مثل وميض البرق واختفى، وشاعت عنه أنباء أنه وبسبب من الاحباط الذي شعره أشعل النار بجسده فوق أحد المسارح ومات محروقاً.

مالك بن جلول

رحلة البحث التي بدأها مالك بن جلولدامت ثلاث سنوات وانتهت بالوصول اليه حياً، فالرجل لم يمُت بل انزوى وترك الموسيقى ليعيش حياة عادية ويشارك في أنشطة سياسية تدعو للعدالة ونبذ العنصرية في بلاده. اكتشاف وجوده ورحلته الأولى الى جنوب أفريقيا، ليقيم على مسارحها حفلات شعبية يغني لجمهوره تلك الأغنيات التي حفوظها عن ظهر قلب، أعادت الحياة اليه والى “أغنياته الميتة” وأشهرها “الرجل السُكًر”.
صنع مالك بن جلول من حكاية “الرجل السكر” رودريغز فيلماً مركباً بين الوثائقي الموسيقي والوثائقي الدرامي من خلال إعادة تشكيله الأجواء التي عاشها المطرب في ديترويت وتسجيل تجربته الموسيقية فيها وفي الجهة الثانية من المحيط أجرى مقابلات مع الذين عرفوه من خلال فنه ونقل مقدار تأثرهم به وحبهم له. تجربة مضنية ورحلة طويلة بدأت بفكرة صغيرة لبرنامج ثقافي تلفزيوني سويدي انتهت الى فيلم يتنافس اليوم على الأوسكار، عنها تحدث مالك بن جلوللصحيفة “سفنسكا داغبلادت” السويدية: “فكرة انجاز فيلم عن مغني الروك المجهول، رودريغز، بدأت كمشروع ريبورتاج تلفزيوني اتفقت مع برنامج “كوبرا” الثقافي على انجازه لهم ويدور حول مطرب أمريكي يُعيل نفسه بالعمل في بناء وترميم المنازل القديمة، وكيف أنه ظل مجهولاً في بلاده في الوقت الذي صار اسطورة شعبية في جنوب أفريقيا، ثم تطور المشروع ودون تخطيط مبسق الى امكانية تحويله فيلماً”.

لم يكن العمل عليه سهلاً إذ تعرض الى مصاعب كثيرة هددت بتوقفه بسبب تجاوز سقف انتاجه الزمني وضعف تمويله، ومع هذا أصر مالك على المواصلة لإحساسه بأن قصة حياة رودريغز كانت أفضل قصة سمعها في حياته ومن واجبه تحويلها الى فيلم يعيد بعض الإعتبار للرجل. ظروف العمل كانت صعبة ووتيرته بطيئة، كما أن البحث عن مصادر تمويل أخرى وصلت الى طريق مسدود والميزانية القليلة المخصصة له لم تعد عملياً تتناسب مع توسعه اللاحق ودعم معهد السينما السويدية المالي القليل أصلاً تبخر في أول مراحل انتاجه وفي مراحل أخرى متقدمة انسحب أحد مموليه بحجة عدم قدرته على الاستمرار ووسط كل هذا كان سيكستو روريغز نفسه متردداً. ويعترف مالك “لم يكن يحب الوقوف أمام الكاميرا ولا يريد أن يصور مع أنه كان رجلاً لطيفاً معنا طيلة مدة التصوير”.
“البحث عن الرجل السُكَر” ليس الوثائقي الموسيقي الأول لمالك فقد أنجز قبله أفلاماً تلفزيونية كثيرة وفكرة فيلمه القصير الأول فيها شبه من فيلمه الطويل يتذكرها بتفصيل “بعد انتهاء دراستي للانتاج الاعلامي فكرت بإخراج فيلم وثائقي عن الموسيقى في فترة  التسعينات واخترت البدأ بجاكوب هيلمان الذي لم يُجر أي لقاء صحفي خلال العشر سنوات الاخيرة. حاولت الاتصال به عبر شركة تسجيل اسطواناته ولم أوفق لأنهم فقدوا الاتصال به أيضاَ. بعدها بحثت في دليل التلفونات فحصلت على رقمه واتفقت معه على حوار. سجلت اللقاء وبعته الى التلفزيون السويدي والى كتبت نصه الى صحيفة يومية.

البحث عن رجل السكر

وما إذا كانت هناك مقاربة مدروسة بين مشروعه الأول الذي يدور حول نصف غياب وفي فيلمه الطويل هناك غياب كامل لرودريغز يقول “لم أفكر في هذا ولكن ثمة مقاربة بينهما حتماً. الاثنان عندهم قصة جميلة صالحة لتروى وهذا، مع ايجابياته وجمالياته، بحد ذاته يمثل صعوبة في تنفيذ وثائقي تلفزيوني عنهما، لأن الأفلام الأخرى، التي تدور حول مشاهير الموسيقى يلعب أصحابها دوراً مساعداً في انجاحها وترويجها. تصور انك تصنع فيلما وثائقيا عن رود ستوارت أو ألتون جون هؤلاء مشاهير وعناصر الاحتفالية بهم سيضمنها الوثائقي نفسه بسبب نظرة الإعجاب الجاهزة عند معجبيهم ومحبيهم. بالمناسبة لقد حدث بعض التغيير في نهاية فيلمي واكتسب بعض عناصر “الدرامالوغيا” التي تحدثت عنها حين يصنع المرء فيلماً عن المشاهير، عندما بدأ موقف رودريغز يلين شيئاً فشيئاً من مسألة اكمال العمل وارتفع مستوى تجاوبه معي بعد اقتناعه الكامل بجديتي وبالمراحل الطويلة التي قطتعها في صناعة الفيلم قبل المجيء اليه في بيته المتواضع والتي أخذت مني أكثر من ثلاثة سنوات انتقلت خلالها بين عديد  البلدان في بحث مضني عن “الفنان الغائب”.
 المفارقة التي يذكرها مالك في هذا الصدد أن رودريغز ومع كل الحماسة التي اجتاحته أخيراً ورغبته الحقيقية في مساعدتي وكلماته التي كان يكررها “أريد مساعدة هذا الشاب” لم يتصالح مع الكاميرا وظل يخشى الوقوف أمامها”. لكنه ولحسن الحظ لم يستمر على هذا الحال لقد تغيَّر سلوكه في لحظة دخول المنتج البريطاني الشهير سيمون شين، صاحب الفيلم الوثائقي الرائع والحائز على جوائز الأوسكار “رجل فوق السلك”، على الخط. “بطريقة سحرية حفزه على التفاعل” يقول مالك “وله الفضل في ترشيح فيلمه فيما بعد للمشاركة في مهرجان “ساندانس” الدولي ثم تبعتها مشاركات عالمية أخرى توجت بترشيح السويد له لنيل جائزة أفضل فيلم وثائقي”.

سبق ترشيحه ترحيب اعلامي ونقدي كبيرين في أمريكا لا يريد مالك التعويل عليها كثيرا حتى لا يشعر بالاحباط في حالة ذهاب الجائزة الى فيلم آخر ويبدي استغرابه من الحماسة العالية على حصاد الجائزة “المنافسة على الأوسكار شديدة ويصعب فهم حجم المراهنة التي يراهنها صناع الأفلام والشركات المنتجة للحصول عليها فالشركة الأمريكية التي انتجت فيلمي سبق لها أن حصلت على 33 جائزة من جوائز الأوسكار ومع هذا فهي شديدة الحماسة للفوز بها هذا العام أيضاً”. أكثر من الأوسكار يهمه المضي في عمله وانجازه أفلاماً جديدة ولا يجد حرجاً في الاعتراف بقوة اغراء هوليوود ولا يخفي اتصالات يجريها ومنذ الآن للحصول على قبول شركات انتاج كبيرة لمشروعه القادم، ويشعر كما يخبره قلبه بأنه على الطريق الصحيح وما ينقله له وكلاؤه في هوليوود يُبشر بمقدم الخير الذي هَلَ مع “البحث عن الرجل السُكَر”.


إعلان