جعفر بناهى فى إقامته الجبرية بمنزله

هذا ليس فيلما وثائقيا

صفاء الليثى
لو لم تكن تعرف شيئا عن السينما الإيرانية ولا عن شروط العمل الذى يفرضه نظام الحكم فيها، إذا كنت مشاهد محب للسينما فقط دون أن تكون لديك خلفية عما حدث لأحد نجوم الإخراج وصاحب الشهرة العالمية جعفر بناهى ، فسوت تقرأ الفيلم على أنه حكاية مخرج منع من الإخراج لمدة 20 عاما وها هو يكاد يجن فيتصل بصديق ويحضر بكاميرا احترافية معه ليمثل أمامها الفيلم الذى ينتوى عمله، يبدأ فى تصور ديكور المكان على سجادة غرفة المعيشة ويقرأ السيناريو، يحكى الفيلم من الأوراق بينما ينهج منفعلا وقد تقمصته روح الفن وفجأة يصمت يسأله الصديق لماذا توقفت فيقول: إذا كنا قادرين على سرد الفيلم فلماذا نصنع الأفلام، وقد تبين سخف ما يقوم به وأدرك المأزق الموضوع به، الكاميرا ما زالت تدور يطلب من صديقه إيقاف التصوير فيقول الصديق ليس من حقك أن تقول ستوب أنت ممنوع من الإخراج ..فيبتسم ونضحك نحن المتلقين من طرافة الموقف نضحك ضحكا حزينا وقد وصلتنا رسالة المخرج عن قسوة الحكم عليه بعدم الإخراج ليكون حكما بالموت لمن يتنفس سينما ولمن يعيش كل دقيقة من وقته مشاهدا أو كاتب أو محققا للأفلام.
بإعداد مسبق شديد الإحكام يحكى بناهى كل التفاصيل مع بداية تناوله طعام الإفطار بمكالمة تليفونية من محاميته ندرك أنها تنوى الاستئناف على الحكم، ثم مكالمة للصديق طالبا منه الحضور بكاميرا دون أن يخبر أحدا ويصوره فى المشهد الذى ذكر سابقا. يستخدم بناهى عناصر المكان الواقعية موظفا إياها دراميا لدرجة عالية من الإبداع ، الضب الذى يربيه ابنه فى البيت، الونش العملاق يتحرك ككائن خرافى فى الساحة المجاوره لشرفته، الجيران وعامل النظافة الذى يأتى لرفع القمامة.

لا يترك بناهى المشاهد فى حالة غامضة، يجيب على كل تساؤلاته من نوع من الذى يصوره وهو فى الشقة وحيدا؟ وأين باقى أفراد الأسرة؟ مستخدما التليفون على السماعة فنسمع الزوجة تخبره عن ذهابها والابن إلى والدة بناهى والتعييد عليها ، توصيه بإطعام الضب بعد غسل الأوراق جيدا، الابن يطلب منه ألا ينسى أن يشحن بطارية الكاميرا، الأخبار من التلفزيون تعلق على مناقشة مدى شرعية الاحتفال بيوم الألعاب النارية، ومواقع الشبكة الاجتماعية القليلة المتاحة تطلق تحذيراتها التى يقرأها بناهى لصديقه المخرج الوثائقى الذى حضر مع الكاميرا بينما الضب يتحرك فى المكان وصوت البناء المجاور وطلقات الألعاب النارية يكونان شريطا من الصورة والصوت راسمة الجو العام لإيران 2011 تحت حكم أحمدى نجاد الذى يبطش بمعارضيه ومنهم موسوى الذى يناصره جعفر بناهى وكثير من مثقفى ومبدعى وشباب إيران المتطلعين لحياة حرة ضد قيود النظام.جزء هام بالفيلم يشرح فيه بناهى طريقة عمله ويركز على أن الممثل غير المحترف يضيف أداء غير متوقع يتجاوز تصور المخرج المسبقة وتوجيهاته، يشرح لنا عمليا ويوقف اللقطة على جهازه، ويضيف لقطة أخرى من فيلم آخر وهو بالمثلين يؤكد كيف تتطور عملية إنجاز الفيلم لتكتسب قيما جديدة من كل عناصر العمل من موقع التصوير وعفوية أداء خاصة الممثلين غير الاحترافيين.
وتأتى نهاية الفيلم بظهور الشاب الذى يحمل القمامة بدلا من أخيه حارس العقار الذى اصطحب زوجته لتلد طفلها فى أصفهان، يتردد اسم أصفهان مرتين فى الفيلم مرة عند ذكر زيارة والدة بناهى فى أصفهان، ومرة من الحارس، هل هى أقل وحشة من العاصمة طهران؟ يبدو بناهى منحازا إليها أكثر. فى مشهد طريف يكون صديق بناهى المخرج قد ترك له الكاميرا  ومضى،  فيحملها بناهى ويصحب الشاب جامع  القمامة فى المصعد متوقفين عند كل دور من الأدوار حتى يصلان إلى الساحة، الشاب يحذره لا تجعل أحدا يراك وأنت تحمل الكاميرا سيد بناهى. بوابة ضخمة خلفها نيران ناجمة عن الألعاب النارية وكأن هناك حربا للشوارع فى طهران. وتنزل العناوين شكر ل.. مجموعة من النقاط، مساهمة لمجموعة من النقاط ثم إهداء الفيلم للسينمائيين الإيرانيين.
هذا ليس فيلما فيلم بديع، نحتار فى تصنيفه بين الوثائقى والروائى، والأهم أنه تعبير عن حالة مخرج مبدع فى بلد يقمع الإبداع والبشر إذا خالفوا النظام. فيلم قام فيه المخرج بدور الممثل وكاتب السيناريو والمخرج. فلا أحد يمكنه أن يمنع طيرا من الطيران ولا مخرجا من الإخراج. ولا السينما الإيرانية الخاصة من الوصول لمحبيها فى كل أنحاء العالم، فبعد وصول الفيلم لمهرجان كان عام 2011 ،  عرضنا ” هذا ليس فيلما”  فى إطار نشاط نقاد مصر تكريما له واستمتاعا بفنه الذى فشل الاستبداد فى منعه من التعبير والتواصل مع كل الأحرار فى العالم. وسوف نتابع وصول فيلمه الأخير ” باردى” (الستارة المغلقة) إلى مهرجان برلين فى فبراير القادم، والذى شارك بناهى فى إخراجه كامبوزيا بارتوفى، سيصل الفيلم  هناك بدون المخرج أيضا، ولكن بناهى مستمر فى مقاومة الحكم بمنعه من الإخراج مدعوما بكبار مخرجى العالم ومدعوما من منظمى المهرجانات الكبرى فى العالم، ومدعوما من عشاق السينما المختلفة فى كل أنحاء العالم مؤكدين جميعا أن الفن أقوى دائما من كل استبداد .
 


إعلان