روتردام السينمائي الدولي يكرِّم كيرا موراتوفا
لندن / عدنان حسين أحمد
يكرِّم مهرجان روتردام السينمائي الدولي في دورته الثانية والأربعين المخرجة السوفيتيية الأوكراينية كيرا موراتوفا المعروفة بأسلوبها الإخراجي الأصيل الذي يتوفر على قدرٍ كبير من الجدِّة والابتكار. وأفلامها، في الأعم الأغلب، مكرّسة لعدد محدود جداً من المتلقين الذين يمتلكون القدرة على تحمّل المشاهد القاسية والأليمة التي ترصدها عدسة كيرا موراتوفا. تعرضت أفلام موراتوفا إلى قدر كبير من الرقابة السوفيتية التي حدّت من شهرتها وانتشارها علماً بأن كل أفلامها ناطقة بالروسية وتعتمد في طاقمها التمثيلي على عدد غير قليل من الممثلين المحليين. لابد من الإشارة إلى أن موراتوفا قد ولدت في سوروكا برومانيا عام 1934 من أم رومانية وأب روسي، وهي تعيش حالياً في أوديسا التي أنجزت فيها كل أفلامها السينمائية.
يقترن اسم موراتوفا، بحسب النقاد الغربيين، بفن السينما السوفتية، وعلى الرغم من هذه الخصوصية التي قد تميزها عن بعض أقرانها السينمائيين إلاّ أنها تتعاطى مع ثيمات وأفكار عالمية قد لا تتعارض بالضرورة مع أسلوبها الفني الذي يعتمد على تصوير الحياة السوفيتية. ثمة ملاحظات عامة يمكن للمتلقي أن يلتقطها بسهولة حينما يشاهد بعض أفلامها ذائعة الصيت مثل “بين الأحجار الرمادية”، “الشرطي العاطفي”، “ثلاث قصص”، “متلازمة الوهن” وغيرها، إذ يلاحظ المُشاهد ولع المخرجة بالمناظر الطبيعية من جهة، وتركيزها الواضح على الشخصيات السوفيتية الفريدة التي تحيل مباشرة إلى نمط االحياة السوفيتية المعروفة، فلاغرابة إذاً حينما يصنف النقاد بعض أفلامها بسينما الواقعية الاشتراكية، فيما نحتْ أفلام يوري كوليوكن وإيفان لوكينسكي منحى رومانسياً لا يجد حرجاً في شعرنة الواقع السوفيتي. إنّ ما يميز موراتوفا عن أقرانها السينمائيين هو تركيزها الواضح على مثلث القبح والقسوة والعبث، هذا إضافة إلى نَفَسها السوريالي الواضح الذي يمكن تلمّسه في العديد من أفلامها الروائية التي استقرت في ذاكرة المتابعين لتجربتها الفنية المتميزة.

يفرِّق النقاد بين ثلاثية “القبح والقسوة والعبث” عند موراتوفا عن غيرها من المخرجين العالميين أمثال بيتر غرينوَّي ولينا فيرتمولر وغيرهما، فهي لا تريد أن تضع نفسها في قالب محدد يقيّد رؤيتها الإخراجية العميقة والغامضة في آنٍ معا. فهذا الثالوث القاسي يمكن تلمسه بسهولة في الأجساد البشرية والحيوانية المشوّهة والمبتورة الأطراف التي تبعث على التقزز والقرف والغثيان، وربما يستطيع المشاهد أن يتتبع القبح في الأجساد العارية وغير الجميلة التي تنتقيها المخرجة بعناية فائقة تعزز قصديتها، وربما يتجسد ذلك بقوة في التقاطها لمشاهد بعض الناس المعاقين ذهنياً الذين يبعثون في المتلقي مشاعر من الحزن والأسى العميقين. لا تحاول موارتوفا قطعاً أن تخفف من وطأة هذه القسوة على المشاهدين متحدية الجمهور وداعية إياه لأن ينسى التعريفات العادية للجمال وأن يقبل بالصور القاسية التي تعرضها أمام عينيه وهي للمناسبة لا تقابل الصور القبيحة بأخرى جميلة، ولا تربطها بشيئ سلبي البتة. كما أنها لا تتنازل عن وجهة نظرها في هذا الصدد، بل على العكس، تسند أدوارها في العديد من الأفلام إلى ممثلين عاديين جداً، لكنها تجعلهم يبدون أقل جمالاً وإثارة لتعزيز وجهات نظرها المُشار إليها سلفاً.
تعتمد موراتوفا في رؤيتها الإخراجية على الرتابة بواسطة اعتمادها على تقنية الإعادة والتكرار التي تبعث على الملل فثمة كلمات وعبارات وجمل تُعاد لمرات كثيرة، وغالبا ما تكون هذه العبارات سيئة أو بذيئة تنعكس قسوتها ليس على الممثلين الذين أدوا هذه الأدوار، بل على المُشاهدين الذين يتلقون هذا النمط من الأفلام القاسية. لا يستغرب المُشاهد الذي وطّن نفسه على هذا النمط من الأفلام الفظة التي يتحدث فيها الممثلون بصوت عال، لكنهم يضحكون فجأة بطريقة مستفزة من دون سبب، أو ينفجرون بعنف لفظي أو جسدي قد يصدم المشاهد أو يضعه في دائرة الذهول. ما يميز أفلام موراتوفا أيضاً هو المناخ العبثي الذي يفضي بالمُشاهد إلى تساؤلات داخلية عميقة هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى الأسئلة العابرة التي تؤرق الكائن البشري أيضاً وتدعوه للتأمل وإعمال الذهن، فثمة ممثلين في أفلامها السوريالية يقومون بحركات غريبة من دون وجود دوافع تبرر هذه الحركات أو تفسرها، وغالباً ما تعتمد المخرجة على ممثلين غير محترفين، وبعض المواقف الجادة تُقاطع بسخرية عبثية لافتة للانتباه. من هنا نفهم لماذا أطلق بعض النقاد على أسلوبها بالشيزوفريني، بينما تتراوح رؤيتها للعالم بين أقصى النهلستية وأقصى الإنسانية.

حصلت موراتوفا على جائزة التحكيم الخاصة الدب الفضي عام 1990 في مهرجان برلين السينمائي العالمي في دورته الأربعين عن فلمها الموسوم “متلازمة الوهن”، كما شارك فلمها “ثلاث قصص” في الدورة السابعة والأربعين لمهرجان برلين السينمائي الدولي. عُرض فلمها المتميز فلمها “بين الاحجار الرمادية” في قسم “نظرة خاصة” بمهرجان “كان” السينمائي عام 1988 كما حصل الفلم ذاته جائزة “نيكا” الروسية لأعوام متتالية. أنجزت موراتوفا عدداً كبيراً من الأفلام نذكر منها “على جرف شديد الانحدار”، ” مواجهات قصيرة”، ” وداعات طويلة”، ” تغيير المصير”، “مشاعر”، “رسالة إلى أميركا”، “مواطنون من الدرجة الثانية”، “دوافع تشيخوف” وفلمها الأخير “العودة الأبدية للبيت” الذي يتمحور على زيارة يقوم بها رجل إلى صديق دراسته لأنه يعاني من مشكلة عاطفية، فهو يحب امرأتين في آنٍ واحد، ولا يعرف ماذا يفعل، لذلك يقوم بهذه الزيارة بحثاً عن نصيحة تخفف عنه وطأة ما يعانية من أزمة نفسية خانقة.