ليال بلا نوم

عدنان مدانات
قد يبدو عنوان فيلم” ليال بلا نوم” للمخرجة اللبنانية إليان الراهب غريبا عن نوعه كفيلم تسجيلي، حيث أن العنوان يمكن أن يوحي بانتمائه إلى موضوع، أو مادة روائية، إلا أن مشاهدة الفيلم تؤكد على مطابقة العنوان لهذا الفيلم التسجيلي الذي تقوم مادته على تقديم شخصيتين رئيسيتين دراميتين يمكن وصفهما مجازا بأنهما لا تعرفان النوم. الشخصية الأولى تعلق برجل في أواسط الخمسينيات من عمره ضميره مثقل بسبب من الشرور والجرائم التي ارتكبها في شبابه والتي بات الآن يعتذر عنها في شتى المحافل وعبر مختلف الوسائط التي تتاح له. الشخصية الثانية امرأة في خريف عمرها يؤرقها فقدانها لابنها الذي اختفى منذ نحو عقدين من الزمن حين كان وهو في الخامسة عشر من عمره يشارك كمقاتل في صفوف الحزب الشيوعي أثناء الحرب الأهلية في لبنان ولا تزال أمه تأمل في أن تعثر عليه حيا أو ميتا، أو أن تعرف ما حل به.
في حين تبدو شخصية هذه الأم المنكوبة، على ما فيها من عاطفة مؤثرة، شبيهة بشخصية مئات النساء اللواتي فقدن أعزائهن أثناء الحرب ولم يتوقفن عن البحث عنهم ومحاولة معرفة مصيرهم رغم مرور زمن طويل جدا على اختفائهم، فإن شخصية الرجل هي التي لفتت انتباهي أكثر كشخصية  متميزة يصعب أن نجد مثيلا لها.

إليان الراهب

الرجل هو أسعد الشفتري المسيحي والذي كان مسؤولا مهما في استخبارات القوات اللبنانية أيام كان يقود القوات بشير الجميل. بحكم وظيفته، كان أسعد الشفتري متورطا في عمليات الخطف والقتل سواء عبر الأوامر التي كان يعطيها لمرؤسيه أو ممارسة القتل شخصيا لمخطوفين لديه( يصرح في الفيلم أنه ذبح شخصيا أحد المخطوفين كي يثبت لمرؤوسيه أن يديه ملطختين بالدم مثلهم)، وهو في ذلك الحين كان مقتنعا بما يفعله ويبرره وطنيا ودينيا، بل أنه، كما يصرح في الفيلم، كان يتلقى البركات على أفعاله من رجل دين مسيحي. تغير مصير أسعد الشفتري بعد اغتيال بشير الجميل الذي أصبح رئيسا للجمهورية اللبنانية، مما أدى إلى تناحر القيادات وانقسام القوات إلى فريقين، فريق يتبع إيلي حبيقة، وفريق يتبع سمير جعجع. كان أسعد من ضمن فريق إيلي حبيقة الذي خرج منهزما أمام فريق سمير جعجع، وهكذا وجد أسعد الشفتري نفسه هاربا لاجئا مع عائلته ورفاقه في مدينة زحلة وأصبح حالهم، كما تذكر زوجته، مثل حال اللاجئين الفلسطينيين الذين كان يقاتل ضدهم. خسر أسعد الشفتري الحرب، لكن الأهم من ذلك على المستوى الشخصي كان خيبته من المبادئ والمعتقدات التي كانت تبرر مواقفه وما ارتكبه من شرور.
بعد سنوات من عذاب الضمير و إرضاءً لضميره، لا يجد أسعد الشفتري بدا من تدوين اعترافاته ويقرر نشرها في كتاب ويعطي المقابلات لوسائل الإعلام التي يعترف فيها بما ارتكب من شرور.
تقرر إليان الراهب صنع فيلم عن أسعد الشفتري. لا يضيف أسعد الشفتري في الفيلم جديدا على ما قاله سابقا من اعترافات وما قدمه من اعتذار في وسائل الإعلام وفي خطبة ألقاها في اجتماع عام، بل أنه يبدو متمنعا عن الإجابة على الكثير من الأسئلة التوضيحية التي تطرحها عليه مبررا ذلك بأنه غير مستعد للإفصاح عن أمور تتعلق بغيره، وهو بذلك لا يروي ظمأ المشاهدين لمعرفة الكثير من أسرار تلك الحقبة،غير أن هذا لا يخفف من اهتمام المشاهدين بهذه الشخصية التي تميل إلى الصمت و تسيطر عليها الكآبة، والتي ينعكس عذاب الضمير على ملامحها وحركاتها والتي تنجح إليان الراهب، وهذا ما يحسب لها، في تقديمها كشخصية درامية بامتياز.

من المشاهد الهامة المعبرة عن هذه الشخصية المقابلة التي تجريها إليان مع ابن أسعد الشفتري فيما هو يتناول الطعام مع والدته. يقول الابن في هذه المقابلة أنه لا يعرف شيئا عن ماضي والده. يضيف وهو يضحك بسخرية أن والده قليل الكلام ولا يكثر من الكلام إلا حين يريد أن يعتذر فيظل يكرر الاعتذار دون حاجة لذلك في حين يكفي أن يقول آسف.
من المشاهد الهامة أيضا تصريح أسعد الشفتري بالطريقة التي مارس فيها لأول مرة عملية قتل احد المخطوفين. تسأله إليان الراهب عن اسم الضحية، تسأله عن عمره، عن أوصافه، لكن أسعد يجيب كل مرة فقط بأنه لا يذكر.
إضافة إلى الحس الدرامي المنبثق عن تقديم الشخصيتين تبني إليان الراهب دراما فيلمها من الجمع والمقابلة بين الشخصيتين في مشاهد مشتركة حيث يتوضح أن أسعد الشفتري كان قائدا في المعركة التي شارك فيها ابنها واختفت آثاره إثرها. تصور إليان الراهب الاثنين معا و هما يتأملان عن بعد المبنى الذي جرت فيه المعركة ، وتصور الأم وهي تصرخ بغضب في أسعد الشفتري لعجزه عن تقديم أية معلومات عن ابنها المفقود.
على امتداد ساعتين وربع تقريبا، إضافة إلى عنايتها الواضحة بجماليات التصوير خاصة من خلال العديد من اللقطات  الطبيعة الفنية التشكيلية التي دخلت في المونتاج لتصور الجو المحيط بالشخصيات، تقدم إليان الراهب العديد من الشخصيات الأخرى بما يساهم في الكشف عن الكثير من جوانب الحرب الأهلية في لبنان سواء على مستوى الشخصيات أو التاريخ الوطني، وتتمكن من صنع فيلم غني بأحداثه وشخصياته.


إعلان