على اسطوانات: الخطر النووي والكنيسة ونهاية العالم

في حين أن النقد عموماً، والنقد العربي على الأخص، لا ينهل من تاريخ السينما بل يمارس نوعاً من التمييز ضد ما يعود إلى ما قبل “الشتا اللي فات”، تفتح أسطوانات الـ DVD صفحات الماضي بكل ما تحتويه من حيوية ونشاط، ناهيك عن عشرات ألوف التجارب والأفلام التي مرّ بعضها تحت رادار مثقّـفي عصره لكنه، وبفضل هذا الوسيط، يشهد ولادة ثانية.

روبرت ألديتش

لا شيء مما ذكر أعلاه أصدق وقعاً مما حدث لفيلم روبرت ألدريتش (1983?-?1918) «الوميض الأخير للغسق» الذي حققه سنة 1977 كواحد من آخر أربعة أفلام له من بعد مسيرة احتوت على 31 فيلما سينمائيا وبضعة أعمال تلفزيونية مبكرة (من جيل التلفزيون الأول في الخمسينات).
اقتبس ألدريتش هذا الفيلم عن رواية تشويقية لوولتر وايجر وهذا كان روائياً متوسّط الشهرة نقلت السينما عن أعماله ثلاثة أفلام فقط أوّلها هذا الفيلم وثانيها «تلفون»، وهو تشويق جاسوسي لدون سيغل، والثالث هو ما تحوّل إلى الجزء الثاني من «داي هارد» بطولة بروس ويليس وإخراج رني هارلن.
حين أقدم ألدريتش على إنتاج وإخراج «الوميض الأخير للغسق» كانت الحياة السياسية من حوله في فوضاها المعتادة. كانت أميركا خرجت من الحرب الفييتنامية مهزومة، ورتشارد نيكسون خرج من البيت الأبيض بفضيحة ووترغيت التي تبيّن- قبل إنجاز هذا الفيلم أيضاً- أنها سوف لن تنال منه شخصياً بل من النظام وفقط إلى حين. ها هو بطلها نيكسون يرتاح في ربوع مزرعته ليكتب مذكّـراته مدفوعة الثمن.
ألدريتش كان دوماً مخرجاً غاضباً وانتقادياً وهو وجد في رواية وايجر ما يجعله يمضي أكثر في هذا المجال فتولّى نقلها، مع تحويلات وتغييرات رآها ضرورية، إلى فيلم يدور حول جنرال سابق اسمه لورنس دل (بيرت لانكاستر) يقتحم معقلاً عسكرياً في ولاية مونتانا ويسيطر على تسعة صواريخ نووية لا ينقص إطلاقها سوى الاستجابة لطلباته أو رفضها وفي الحال الثاني كل ما يحتاجه لإطلاق هذه الصواريخ هو كبسة زر.
الجنرال ليس وحيداً، لكن معاونيه الاثنين هما في هذه اللعبة على أساس ابتزاز الحكومة وإجبارها على دفع بضع عشرات الملايين من الدولارات في مقابل الانسحاب. أما وأن الجنرال ومساعديه (روسكو لي براون وبيرت يونغ) باتا بدوريهما حبيسي الغرفة المحصّـنة فإن كل المستقبل متوقّـف على المفاوضات بين الجنرال وبين رئيس الجمهورية (تشارلز دارنينغ الذي توفي قبل أقل من شهر).

الجنرال كان يريد المال أيضاً لكن إلى جانبه كان يريد فضح ما رآه من تقاعس القيادات العسكرية الأميركية عن فعل الشيء الصحيح ما أدّى إلى هزيمتها السابقة. صعوبة الفيلم هي أن هذه النقطة تبقى حواراً أكثر منها تفعيلاً درامياً صحيحاً ومقنعاً. لكن المسألة هي أن كل ما يحتاجه المخرج هو الإيحاء والخيوط المتداخلة لكي ينجز صرخته ضد تسييس الجيش وفي الوقت نفسه تصوير خطر الصواريخ النووية وما قد يحدث إذا ما آلت إلى جنرال مجنون.
لم تكن المرّة الأولى التي عمد فيها روبرت ألدريتش إلى التعامل مع الموضوع النووي. هذا الموضوع كان حاضراً في ثالث أفلامه سنة 1955 عندما اقتبس رواية للكاتب البوليسي ميكي سبيلان بعنوان «قبّـلني حت الموت» Kiss Me Deadly  تدور حول المفتش مايك هامر (رالف ميكر) الذي يجد نفسه منشغلاً بقضية قيام عصابة بالاستيلاء على شحنة نووية مدمّرة. والمشاهد الأخيرة من ذلك الفيلم (متوفّر أيضاً على أسطوانات) جمّـدت المشاهدين طويلاً أمام موضوع كان لا يزال جديداً عليهم: انفجارات مدوّية تصدر من الفيلا الساحلية التي اتخذتها العصابة مأوى لها بينما بطل الفيلم المصاب بجرح يحاول، مع سكرتيرته (ماريون كار) الهروب بعيداً. ألدريتش ملتزم هنا بأن يجعله هروباً مستحيلاً أيضاً في نهاية قاتمة كتلك التي ينتهي «الوميض الأخير للغسق» بها.
وهذا الفيلم كان رابع أفلامه مع بيرت لانكاستر فهو جلبه في أول فيلم له (1954) وكان وسترن بعنوان «أباتشي» يصوّر النهاية الموحشة للقبيلة ولبطل الفيلم الذي يسلّم نفسه للسلطات فتوعز له بامتلاك قطعة أرض يزرعها، لكن الأباتشي من القبائل التي تصيد وليست من تلك التي تزرع ما يخلق أزمة عيش طاحنة لشخصية مستمدّة من الواقع.
الثاني كان فيلم التسلية «فيرا كروز» (1954 أيضاً) والثالث حدث بعد عقود عندما حاول المخرج وضع نقطة على السطر فيما يخص الصراع على الأرض بين القبائل الهندية والجيش الأميركي في فيلم «غارة ألزانا» (1972).

الوميض الأخير للغسق

الموضوع النووي يضع هذا الناقد أمام فيلم حديث ولو أنه لم يتوجّـه إلى الشاشات الكبيرة، بل أطلق مباشرة على أسطوانات. هو «عد القدس التنازلي» Jerusalem Countdown لمخرج جديد اسمه هارولد كرونك. الفيلم له نبرة تبشيرية لأنه من إنتاج واحدة من المؤسسات الكنسية  في الولايات المتحدة، ولأنه مكتوب من قبل شخص اسمه جون هاجّـي (مولود في الولايات المتحدة لكن لا معلومات إذا ما كانت لديه أصول عربية تبعاً لاسمه الذي قد يُـلفظ “حجّـي”). الرواية تنتمي إلى ذلك الفصيل من المؤمنين بنهاية العالم قريباً ودينياً هي من الكنائس الإنجليكية المحافظة التي كثيراً ما وجدت الإنجيل والتوراة واحدا فدافعت، ولا تزال عن اليهودية أكثر مما بشّـرت بالمسيحية التقليدية (كاثوليكية أو بروتستنتية). في الرواية (التي أهملتها بعد ثلاث فصول) هناك خطر ماحق لاحتمال قيام جهة تخريبية كبيرة بإشعال فتيل حرب يكون وبالاً حتمياً ما ينهي العالم الذي نعيش فيه.

لمنعه ينطلق عميل السي آي أيه (ديفيد أ. ر. وايت) محاولاً معرفة الجهة التي سرّبت صواريخ نووية إلى الولايات المتحدة يعاونه في ذلك عميل للأف بي آي (آنا زيلنسكي) وعميل للموساد (ماركو كوهن) ومحاولة إنقاذ الغرب من دمار شامل والعالم من نهاية حتمية تؤدي إلى تجنيب دولة الكيان دخول حرب جديدة مع الروس والإيرانيين على الرغم من أن إسرائيل، تبعاً للفيلم، تستطيع الانتصار عليهما معاً. هذا الخيط هو ما تردده تلك الكنائس وأتباعها فهناك إيمان بأن روسيا وإيران ستشنّـان حرباً على دولة الكيان لكن الله سيحميها وستنتصر.
الفيلم لا يجرّب دخول هذه المرحلة ليؤكد ما يؤمن به غالباً لأن ميزانيّته لا تسمح لأن يتحوّل إلى أي شيء سوى تنفيذ متواضع لرواية لم تشهد أي نجاح تبث رسالة ينظر إليها مسيحيون أميركيون كثيرون بتهكم شديد.

لكن “خلطة فوزية” بين الدين والسياسة والتشويق الترفيهي موجودة هنا كما عرفناها في روايتي دان براون «شيفرة دافنشي» و«ملائكة وشياطين». الفارق أن كلفة «عد القدس التنازلي» هي أقل من ما تقاضاه الممثل توم هانكس لقاء اضطلاعه ببطولة أي من هذين الفيلمين.
لابد من الإشارة إلى أن تعامل هوليوود مع الكنيسة الكاثوليكية غالباً ما ينطلق من الاعتداء عليها ونقدها. نادراً ما نرى فيلماً يدافع عنها. فالمجرمون في هذه الأفلام يمارسون العقيدة الكاثوليكية ورهبانها يعتدون على الأطفال أو لا يستطيعون حماية أنفسهم من قيام الشيطان بتلبّسهم أو طرد الشياطين من أجساد بريئة.
وحين نعلم أن هذا الموقف من الكنيسة مرتبط بموقف الكنيسة من اليهودية فإن المسألة لا تحتاج إلى أكثر من مراجعة عشرات الأفلام التي أنتجتها السينما في هذا الصدد ما يؤدي بنا إلى مفهوم واحد: ما أن يمتزج الدين بالسياسة والعكس حتى يصبح الناتج أداة تدمير شبه نووية بحد ذاتها.


إعلان