عن الفيلم الإسرائيلي”بيت لحم”
أمير العمري
يمكن إعتبار الفيلم الإسرائيلي “بيت لحم” الذي عرض في قسم “أيام فينيسيا” في الدورة السبعين من مهرجان فينيسيا الذي إنتهى مؤخرا، الرد الإسرائيلي سينمائيا، على فيلم “عمر” الفلسطيني للمخرج هاني أبو أسعد.
كان فيلم “عمر”، على نحو ما، تجسيدا روائيا مصورا لكيف يدمر “الشباك”، أي جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، آمال وأحلام الشباب الفلسطيني عن طريق ما يمارسه عليهم من ضغوط غير محتملة، من أجل تجنيدهم للعمل كعملاء للجهاز، يبلغون عن زملائهم وأصدقائهم، وكيف يتلاعب الجهاز بهم ويدمر حياتهم عن طريق الوشايات الكاذبة والغش والتضليل وزرع الأكاذيب والشكوك، وكان الفيلم ينتهي ببطله وقد بلغ به اليأس مبلغه، وتفجرت طاقة العنف التي كانت كامنة في داخله، فيلجأ إلى الحيلة لكي يقتل ضابط الشاباك الذي تلاعب به وبحياته وأوقعه في دائرة الشك كما جعله يبدو في أنظار من يثقون فيه، خائنا، وعميلا.
كان مصدر قوة “عمر” وسر اكتماله (نعتبره أفضل أفلام مخرجه) ذلك السيناريو المحكم، الذي يستخدم قصة الحب الرومانسية بين عمر ونادية.. الفتاة التي يحبها ويرغم في الزواج منها في ظل واقع محبط مليء بالأشواك، كمدخل ـ أو كخلفية قوية رئيسية، لتناول موضوع العيش تحت الاحتلال والحصار، حيث يصبح الحب نفسه عرضة للتخريب. وكانت إشاراتة الفيلم ذات الدلالات الخاصة عاملا من عوامل الإحساس بالجمال فيه: تسلق عمر الجدار الفاصل للانتقال لمقابلة نادية، ثم كيف أصبح قرب النهاية بعد كل ما مر به من أحداث مضنية، عاجزا عن تسلق الجدار بنفس الخفة والمهارة والسرعة. إن مثل هذا النوع من الإشارات كان يضفي المزيد من الخصوصية والسحر على الفيلم.
ثنائية الأب – الإبن
أما فيلم “بيت لحم” وهو الفيلم الأول للمخرج الإسرائيلي يوفال أدلر الذي كتبه بالتعاون مع الصحفي الفلسطيني علي واكد، فهو أيضا يتناول العلاقة بين ضابط الشاباك “رازي” (مقابل رامي في فيلم “عمر” ويقوم بدوره المغني الإسرائيلي تساحي هاليفي) والشاب الفلسطيني الصغير “سنفور” (شادي مرعي)، ولكن من زاوية أخرى مختلفة، فهو يركز على تلك العلاقة “الإنسانية” التي يفترض صانعا الفيلم أنها يمكن أن تنشأ بين ضابط المخابرات الاسرائيلي، والفلسطيني الشاب الذي يعمل مرشدا على أبناء جلدته لحساب الشاباك، ويصور الفيلم تلك العلاقة كما لو كانت بين “الأب البديل”من ناحية، الذي أصبح يشعر بمسؤوليته الأخلاقية تجاه العميل الذي أوقعه في حبائله ويستخدمه لخدمة أغراض الجهاز الذي يعمل له، وبين “الإبن” الضائع المراهق الذي يبحث عن التحقق ولا يجد من يوليه اهتماما حقيقيا، فالأب الحقيقي له يتركز اهتمامه الأساسي ناحية إبنه الأكبر “ابراهيم” المناضل الذي يتزعم “كتائب شهداء الأقصى” التابعة لحركة فتح. وسنفور يبحث لنفسه أيضا عن “بطولاته” الخاصة لكي يثبت لـ”الكبار” أنه لا يقل شجاعة عنهم، فهو مثلا، يصر على ارتداء صديرية واقية من الرصاص، بدائية قام بصنعها بنفسه، ويتحدى زملاءه أن يطلقوا الرصاص عليه. وهو ما سيؤدي، فيما بعد، إلى إصابته بجرح عميق في بطنه، الأمر الذي يستدعي تدخل “رازي” لعلاجه في إحدى المستشفيات الإسرائيلية في القدس.

من هذا المدخل يصبح سنفور متورطا أكثر فأكثر مع الضابط الاسرائيلي “رازي” الذي يدفعه دفعا للذهاب إلى الخليل حيث منزل خالته بعد أن يبدى سنفور خشيته من أن يرى والده الفظ، جرحه، ويبدأ في طرح التساؤلات. أما دافع رازي لإبعاد سنفور عن بيت لحم فهو لحمايته من الاعتقال بعد أن أصبح معلوما لدى رجال الشاباك، أن سنفور هو الذي يساعد منذ فترة، شقيقه المناضل “ابراهيم” في عملياته السرية، بعد أن أصبح إبراهيم اييعمل أيضا لحساب منظمة حماس، مقابل منهاما يحصل عليه من أموال. ويعلم رازي أنه يتعين على سنفور هذه المرة أيضا أن يحصل على المبلغ المالي من أحد التجار في سوق المدينة القديمة، ثم يقوم بتوصيله إلى ابراهيم.وبابعاد سنفور عن المدينة يضرب رازي عصفورين بحجر واحد، فهو يضمن عدم اعتقال سنفور وحرقه كعميل ثمين من صنعه هو، كما يرغم ابراهيم على المجيء بنفسه لاستلام المال، لكن رازي يصبح بذلك بعد أن ينكشف الأمر، محل شك من جانب رؤسائه في “الشاباك” كونه قد تجاوز الخط المحدد له.
الصياد الفريسة
يقوم السيناريو على فكرة تدور حول تلك العلاقة “الأبوية” المفترضة التي تنشأ بين الصياد (رازي) والفريسة (سنفور).. فبعج سنتين من التعاون معا، أصبح سنفور يجد الأب البديل في رازي، وأصبح الأخير يشعر بمسؤوليته عن حماية سنفور من إنكشاف أمره بين عائلته وأقرانه بل وحرقه من طرف الشاباك أيضا، كما أنه يراه صيدا يوجهه كيفما يشاء. وهذه فكرة نظرية قد تكون مغرية لكاتب الدراما، وهي تعكس ذلك الولع الخاص عند بعض السينمائيين الاسرائيليين ذوي الأفكار الليبرالية القلقة، التي تجعلهم يبحثون عن وسيلة للتغلب على عقدة الإحساس بالذنب، الناتجة عن ذلك السقوط اللا أخلاقي في تدمير النفس البشرية وتخريب العلاقة بين الأب الطبيعي والإبن، وبين الإبن والمحيط الذي ينتمي إليه وإنتزاعه من هويته. ولكن هذا هو ما يفرضه الصراع نفسه.
سنفور أقرب هنا إلى “العميل المزدوج”، فهو يعمل لحساب إسرائيل مجبرا، لكنه يكره إسرائيل، ولكنه أيضا يتوق إلى الحماية، التي يجدها في ذلك الأب- البديل. وازدواجيته هذه تعكس حالته النفسية والذهنية المضطربة، فهو قد وقع في الفخ الاسرائيلي تحت التهديد بنسف منزل العائلة- كما يقول لوالده بعد إنفضاح أمره- إذا لم يرضخ ويتعاون، ولكنه يريد تعويض “خيانته” لقضية وطنه، بأن يشارك بطريقته، في حركة المقاومة من خلال مساعدة شقيقه ابراهيم فيما يقوم به في حين أن والده يمنعه تماما من الاقتراب من العمل النضالي خوفا عليه.
بعد أن يتمكن ضباط الشاباك من قتل ابراهيم، يدرك سنفور حجم خيانته.. لكنه يصبح أمام مأزق وجودي آخر: فإما أن يموت على يدي بدوي.. زميل وصديق ورفيق درب شقيقه ابراهيم (يقوم بدوره ببراعة هيثم عمري)، أو يذهب ويجد وسيلة لقتل رازي ليقدمه قربانا لأبناء جلدته مقابل غفران خطيئته. لكن مما يتناقض مع مسار الفيلم أن نرى سنفور يستعطف رازي بعد أن ينجح في استدراجه،لكي يأخذه معه “إلى داخل إسرائيل” لحمايته!
غمزات خبيثة
تكمن مشكلة الفيلم، كما أشرنا، في اضطراب السيناريو الذي لا يركز على خيط رئيسي يتابعه ويجعل باقي الخيوط والشخصيات تخدمه وتدعمه وتطوره وتصب فيه، بل عوضا عن ذلك، يتفرع إلى كثير من القصص والحكايات، ويتوقف أمام العديد من الشخصيات الأخرى التي يغمز بها الفيلم غمزاته الخبيثة، فالفيلم يظهر معظم الشخصيات الفلسطينية على استعداد لبيع نفسها لكل من يدفع. فابراهيم يغير ولاءه من فتح إلى حماس مقابل ما تدفعه له حماس من مال، وبدوي.. المقاتل البدوي المتشدد، يطلب من سنفور بعد مقتل ابراهيم، أن يساعده لدى رجال حماس، حتى يزودونه بالمال، فهو أيضا مستعد للقيام بما كان يقوم به ابراهيم، مقابل المال طالما أن كله “نضال”، والمسؤول المحلي في السلطة الفلسطينية أبو موسى (كرم شكور) فاسد حتى النخاع، يخدع بدوي بل ويقبض عليه بالحيلة، ويهدده مطالبا إياه بالكف عن مطالبته بالمال الذي يتعين عليه أن يدفعه له ومجموعته المسلحة، بل ويتآمر من أجل كشفه وتعريته والخلاص منه.. والصراع بين حماس وفتح لا يتم على أرضية سياسية بل هو صراع على المال والنفوذ.. وهكذا.
إن كل الشخصيات الفلسطينية في الفيلم، تبدو “قذرة” بشكل ما، أما رازي.. ضابط الشاباك الذي يجيد اللغة العربية، فهو أب حنون، يهتم بأسرته وسعادة أبنائه، يتعاطف مع سنفور ويعامله مثل إبنه، ويسمح له بالتجاوز معه، بل ويغفر له عدم طاعته له أحيانا.. نراه يتحادث مع زميلته ليخبرها بخط سيره، تنصحه هي بألا يتجاوز المنطقة المحددة لحركته بالسيارة ولا يخرج وحده دون أن يصحبه أحد من زملائه، لكنه يصر على الذهاب وحده لمقابلة سنفور رغم ما في ذلك من مخاطر على حياته ورغم تعارضه مع التعليمات.. فهو نبيل، يشعر بمسؤوليته عن سنفور حتى اللحظة الأخيرة، ويريد أن يطمئن عليه. ويدفع “رازي” بالتالي، حياته ثمنا لنبله وشهامته وثقته فيمن تبناه وأضفى عليه حمايته لسنوات.. إنه يلقى مصرعه على يد سنفور في نهاية مشابه لنهاية فيلم “عمر”.

تتعرض قوات الأمن الاسرائيلية في الفيلم، لهجمات عنيفة من جانب الفلسطينيين في حارات المدينة القديمة الضيقة أثناء مطاردتها لابراهيم، لكن الجنود لا يفقدون أعصابهم أبدا، ولا يطلقون الرصاص بل يكتفون طيلة الوقت، باطلاق طلقات التحذير والغاز المسيل للدموع. وعندما يغادر أفراد قوة المطاردة المنزل بعد أن نجحوا في قتل ابراهيم، يقتل ضابط منهم ويجرح رازي أيضا جرحا خطيرا، لكن القوة تنسحب في هدوء دون القيام بأي عمليات انتقامية– كما يحدث عادة في الواقع- أقلها هدم المنازل ومطاردة القتلة وفرض الحصار حول المنطقة والتنكيل بأبنائها واعتقال العشرات. إن القوة الإسرائيلية في الفيلم تقتل ابراهيم كنوع من القصاص بعد أن رفض أن يسلم نفسه وهو الذي سبق وأن قتل جنودا اسرائيليين، وبالتالي فالقوات الاسرائيلية هنا “ضحية” عمليات العنف التي لا تنتهي، وهي عمليات “ممولة” كما لو كان من يقومون بها من المجرمين المحترفين ولا تأتي في سياق نضال شعب.
وفي الفيلم الكثير من الفجوات، نتيجة تشتت الخيوط وضياعها من بين يدي المخرج، وبسبب ميل السيناريو إلى أن يروي الكثير من القصص الفرعية. لكن الفيلم لا يخلو من بعض المشاهد الطريفة مثل مشهد الصراع بين نشطاء فتح وحماس على تشييع جثمان ابراهيم، ففي البداية يحمله نشطاء حماس بعد أن يلفونه بالعلم الأخضر أي علم حماس ويتجهون به مكبرين، ثم يحضر نشطاء فتح يعترضون سبيلهم، ويصرون على استعادة الجثمان وتشييعه هم في علم فتح، وسط حيرة والد الشهيد!
الفيلم في معظمه ناطق باللغة العربية. ويقول الصحفي الفلسطيني علي واكد، الذي شارك المخرج أدلر في السيناريو، إنهم قاموا باجراء مقابلات مكثفة مع الكثير من القادة الفلسطينيين ومن نشطاء حماس وبعض الفلسطينيين المتعاونين مع جهاز الأمن الاسرائيلي، ومع ضباط من الشاباك، من أجل الحصول على كل ما يمكنهم من معلومات تفيد في ضبط الأحداث، وإحكام بناء الشخصيات، وإضفاء الواقعية على سلوكياتها. لكن الفيلم كبناء فني، بدا مترهلا، ومراوغا من حيث الأسلوب، فهناك اختلاط واضح بين الفيلم البوليسي المثير thriller، والفيلم السياسي، والميلودراما، كما أنه يخلو على نحو مثير للتساؤل، من وجود المرأة، في أي دور رئيسي أومتوسط، خصوصا في الجانب الفلسطيني، في حين توجد زوجة رازي، وزميلته في دورين ثانويين.