حول «براءة المسلمين»: الفعل ورد الفعل
محمد رُضا
تسبب «براءة المسلمين» في تداعيات مختلفة أدّت إلى مقتل أبرياء بصرف النظر عن مواقعهم الرسمية. كريستوفر ستيفنز، قبل أن يكون سفيراً هو إنسان بريء من الفيلم كبراءة الذين قُـتلوا معه. الذي حدث لا ينصف الإسلام ولا يرد على الأوغاد الذين صنعوا الفيلم، بل يمدّ نار التطرّف بالمزيد من الوقود لا في جانبنا فحسب، بل في الجانب الآخر أيضاً.
شاهدت مقاطع على «اليوتيوب» وبالنسبة لمن شاهد عشرات ألوف الأفلام في حياته، فإن الحكم على العمل شكلاً ومضموناً لا يستغرق أكثر من مدّة عرض التريلر (دون الثلاث دقائق). بل يسهل الحكم عليه من لقطات قليلة وبالتأكيد يكفي ما عرض لتقييمه فناً، فإذا هو فيلم دجيتال رديء الصنعة، ومضموناً، إذ هو عمل سفيه ويقصد الأذى.
قصد الأذى ليس تعبيراً عن رأي.
في خضم ما حدث تعالت آراء تقول أن أميركا مبنية على تعدد الآراء وحرية الرأي الفردي او الجماعي، وهذا صحيح، لكنها مبنية أيضاً على احترام الآخر. هذا في دستورها وليس تحصيلاً حاصلاً. وتبعاً لذلك هناك عدّة نقاط مهمّة عليها أن تستحوذ على انتباه كل من ينشد سلاماً عادلاً ويسعى لمد العالم بما يحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى: الحب.
الرأي:
الرأي ليس رأياً الا إذا قام على ثوابت وحقائق وعلم. هذه الثوابت تمنح صاحب الرأي الحق في تكوين رأيه. لا أستطيع (او غيري) إطلاق رأي لمجرد أنني منتم إلى وجهة نظر، ولا هو رأي إذا ما كان مُـساقاً من جهاز يولد الحقد في الذات ويصيغ سباباً في أشكال شتّى وهذا هو وضع ومستوى ذلك الشريط.
أنظر إلى مبنى قديم. لا أستطيع أن أقول أنه أثر فني او مجرد مبنى قديم الا إذا اشتغلت على معلوماتي في هذا الجانب لأتبيّن ما إذا كانت عناصر فنية ومعمارية وتاريخية معيّـنة تستطيع أن تمنحه صفة “مبنى أثري” أم لا. بالتالي، القول أنه أثري في حين أنه مجرد بناء قديم ليس رأياً بل وجهة نظر تحتاج إلى رأي يحتاج إلى علم.
حريّة الرأي:
في فيلم «صائد الغزلان» الذي حققه مايكل تشيمينو حمل على الفييتناميين وليس على الأميركيين الذين ولجوا حرباً رآها آخرون آنذاك ويجمع اليوم معظم الناس بأنها لم تكن ضرورية. هذا موقف سياسي (بقدر ما «براءة المسلمين» موقف سياسي) لكن مخرجه بناه على أوضاع حقيقية: الفييتناميون مارسوا العنف على الأسرى الأميركيين على النحو الذي شاهدناه في الفيلم. هذه حقيقة بالتالي رأيه قائم عليها.
في المقابل فإن أفلام برايان دي بالما عن العراق وفرنسيس فورد كوبولا عن فييتنام ومايكل مور عن الوضع الاقتصادي العابث في الولايات المتحدة هي أيضاً قائمة على حقائق، وبالتالي فإن الآراء فيها قائمة عليها.
لكن ما يتحتم على الفيلم او على أي عمل يخرج من المرء حيال سواه، الإلزام به هو التالي: عدم زج الرأي بالدعوة إلى نشر الحقد والبغضاء وهذا ما أقدم عليه صانعو ذلك الشريط. بمعنى أنه لو قام تشيمينو بالدعوة إلى نحر كل فييتنامي على الأرض الأميركية او مباركة مثل هذه الخطوة لو وقعت فإن ذلك هو سوء استخدام لحرية الرأي يقع ضمن المسؤولية. ولو أن مايكل مور طالب في فيلمه الحديث «الرأسمالية، قصة حب» بمهاجمة المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة بحرق ممتلكاتهم لتم وضعه في السجن او تعرّض- وأنا لست محامياً عليماً- للمساءلة في أقل تقدير وأكثر من ذلك لخسر قضيّته.
القضيّة هنا
لا يحمل «براءة المسلمين» قضية بالمعنى الكامل للكلمة. صفاته هي الضغينة والكذب والأذى. وهو قصد أن ينتشر في ذكرى الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، رغم أن العمل عليه انتهى قبل أشهر، وقـُصد التجريح والشتم وترويع غير المسلمين ومنحهم ذرائع للكره… كل ذلك مناف لأي دين ولأي عقيدة ولأي حضارة ولأي مفهوم. كل ذلك وفي كل جزء منه حيواني بربري وليس إنسانياً.

بنفس النفَس لو أن ملحدين او منتمين إلى أي من الأديان الأخرى صنعت شريطاً يصوّر النبي عيسى بن مريم على هذا النحو او يقدّمه كمخنّـث (ردّاً على تقديم النبي محمد صلى الله عليه وسلّم كمعتد جنسي على الأطفال) لقامت قيامة المسيحيين وإن لم تقم فإن في ذلك خطأ ما. لكن لا شيء… لا شيء على الإطلاق يبرر أن نقتل ونحرق ونؤذي أي فرد (بمن فيهم صانعي الفيلم إذا ما وصلت إليهم أيدينا) ردّاً على كل ذلك.
لقد خضنا، كمسلمين، هذا الطريق من قبل عندما قام رسّـام كاريكاتوري دنماركي بالتطاول على نبيّنا الكريم فتظاهرنا وقاطعنا وركضنا في كل الاتجاهات و… لم نحقق شيئاً يذكر من كل ذلك.
لماذا نكتب على أنفسنا أن نكون فاشلين؟
لم نحقق شيئاً يُـذكر ولم نترك تأثيراً إيجابياً يتلقّفه الغربيون ويفهمونه ويؤيدوننا عبره لأن ردود أفعالنا عادة ما تنزل إلى الدرك نفسه عوض أن تعلو وترتقي عنه. هنا، ليس القصد أن لا نأبه، او أن نبتسم ونقول “مهما فعلوا فنحن على حق وديننا الحنيف أعظم من أن يطاله الباغضون”، لا بل القصد هو أن نكون على درجة أعلى من المناعة والذكاء والمعرفة بحيث يأتي الرد مقنعاً وعلمياً مهما كان الفعل المضاد سفيهاً وناقصاً.
الصورة السينمائية عن العربي او عن المسلم (او المسلم العربي بكلمة واحدة) توظّف في مكوّناتها ما هو مُـتاح للتوظيف من عناصر البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه. فإذا كانت تلك البيئة عنيفة (ويجب أن نعترف أن بيئات عديدة في أكثر من مجتمع عربي هي بيئات عنيفة) وإذا كانت منغلقة وعاطفية تقودها الغرائز (قبل شهر، كما أوردت الوكالات، سقط قتلى وجرحى في الجزائر خلافاً على بطيخة) فإن الناتج هو صورة جاهزة للاستخدام السينمائي او الأدبي او أي وسيط آخر.
والعكس بطبيعة الحال هو صحيح.
هل يمكن أن نصنع فيلماً عن فنلندا نتحدّث فيه عن عصابة لقتل الحيوانات؟ او عن مؤسسة علمية كبيرة موجودة في بنغلادش؟ هل هو من باب المنطق أن نحقق فيلماً يقلب الحقائق فإذا بفييتنام هي التي غزت أميركا وليس العكس؟ بنفس المعيار وبنفس المنظور لا يمكن للغرب الحديث عن مجتمع عربي متحضّر يعيش في رفاهية علمية وثقافية يُـحسد عليها كون هذا العيش ليس متوفّراً. الممكن، في المقابل، لأفراد او لجماعات الحديث عن جماعة مسلمة تنفّـذ عمليات إرهابية، او أن تتحدث عن اضطرار المسيحيين للهجرة من العراق وسوريا ومصر ولبنان خوفاً من مستقبل كان عليه أن يكون آمناً.
التقصير شامل والأسباب قويّة الرسوخ تتطلّب قفزة فوق المعطيات وثورة في التفكير على النحو الذي تحقق لبعض دول الخليج، لأجل تعميق حس بالانتماء إلى ثقافة واعية هي التي تشترط أي نوع من ردّ الفعل الذكي والمؤثر إعلامياً الذي يمكن به مواجهة أعمال من هذا النوع. لو كانت الثورة الثقافية الشاملة والوعي الاجتماعي العام متوفّران لما أمكن ولادة جيل الكره الحالي عندنا على الأقل. إذ لا يوجد فعل من دون رد فعل، فإن الفعل الأسبق لتلك الرسوم والفعل الأسبق لذلك الشريط كان السير في درب التطرّف والإيعاز بأن الحياة المثلى على الأرض هي على المنوال العنصري والشعوبي والطائفي ذاته. كان نشر البغضاء للآخر (وهذا الآخر قد يكون مسلماً معتدلاً) ثم التسبب في نشر البغضاء بين شعوب الأرض حيالنا. هل كنا نعتقد مثلاً أن نشتد ونتطرّف في بلجيكا او فرنسا او ألمانيا (حيث هناك وقائع في هذا الشأن) من دون أن نواجه ردّ فعل معاد لنا يردّنا إلى الخلف عوض أن يتقدّم بنا؟
سابقاً، ما كانت هناك علامات على جانبي الحدود تشير إلى بدء فهمنا للدور الذي تستطيع به السينما إفادة قضايانا وفي مقدّمتها اليوم ودائماً القضية الفلسطينية، لكن اليوم، ضاعت الخطط وانتهكت الإنجازات وبات الرد على الفعل لا يقل إدانة لنا عن الفعل نفسه. بات نفخ في الهواء القول أن أفلام محمد لخضر حامينا وعمر أميرالاي ونبيل المالح ومصطفى العقاد ويوسف شاهين وإيليا سليمان ولطيف بن عمّـار ورضا الباهي ومحمد ملص ومي المصري ومارون بغدادي وميشيل خليفي وحفنة آخرين هي التي غيّرت في الطريقة التي ينظر إليها العالم إلينا وليس السياسة او الدين. الآن، ننسف كل شيء. نصف هؤلاء رحل ونصفهم الآخر قليل العمل والأمور آلت إلى من يرى الثقافة والفنون حراماً وكل من يقوم بها سيدخل النار. كيف بالله لا نفشل وكيف يمكن والحال هذه أن ننتصر في أي من معاركنا حتى وإن كانت على الورق؟.