الأقرباء أولى بالمعروف
الأفلام التسجيلية التي تدور حول أقارب المخرجين
محمد رُضا
مشاهدة «السلحفاة التي فقدت درعها» وهو فيلم تسجيلي منتج بأموال ألمانية حققته إبنة مهاجر فلسطيني أسمها باتي القلقيلي، يفتح خط البال على أفلام متزايدة في العالم العربي يحققها مخرجون حول أقارب لهم لينقلوا تجاربهم وأقوالهم ومسائل حياتهم.
إنه فيلم جيّـد مشغول برهافة ويقصد أن ينقل تجربة الأب في هجرته التي تمّت في الستينات حيث قطن ألمانيا وتزوّج من ألمانية وأنجبت له أولاداً بينهم باتي التي استرعى انتباهها قرار الأب العودة إلى فلسطين بحثاً عن جذوره أو ما تبقّـى منها. الكاميرا معه في الرحلة (قد تكون رحلة ثانية غير الأولى التي قام بها فعلياً) تنقل ردّ فعله على ما يشهده (السفر عبر الأردن ممنوع وعبر ممر رفح مسموح ومحاولته ذات مرّة زيارة الأردن أدّت إلى اعتقاله على خلفية إتصالاته مع تنظيمات فلسطينية مسلّـحة في لبنان) وتنقل ردود فعل محيطه من الأقارب والمعارف الذين جاؤوا يستقبلونه أو يزورونه. باقي الفيلم (نحو خمسين بالمئة منه) هو استجواب يتم والأب وإبنته المخرجة جالسين على أرض بلا أثاث وفوقهما “لمبة” وحيدة. هي تسأل وهو يجيب… أحياناً يجيب بحدّة. هناك أكثر من حبل تواصل مقطوع بينهما.
طبعاً هو أمر متروك للمخرج إختيار الشخصية التي يريد. لا تزال النسبة الغالبة في الأفلام التسجيلية التي تتمحور حول أفراد معيّنين هي لشخصيات لا علاقة قربى بينها وبين مخرجي أفلامها، لكن في السنوات الثلاث الأخيرة ارتفعت في المقابل نسبة الأفلام التي يتحدّث فيها المخرج عن والده، عمّ، أمّـه، جدّه أو جدّته وسواهم أحياناً.

لدينا مثلاً «عمو نشأت» لأصيل منصور حول رجل يبحث عن حقيقة استشهاد عمّـه مستجوباً والده وأفراد آخرين من العائلة. و«أسبرين ورصاصة» لعمّـار البيك حيث يصوّر المخرج والدته في مشاهد عديدة، «البحث عن النفط والرمال» لوائل عمر وفيليب ديب حيث يروي المخرج رحلة لاستكشاف حكاية فيلم موّله الملك فاروق، قبل رحيله، من إخراج والده وبطولة والدته، و«العذراء والأقباط وأنا» لنمير عبد المسيح و«يامو» لرامي نيحاوي حيث تتجسّـد حالة مخرج يريد استنطاق والدته حول تاريخ حياتها الخاص والعام، كما «سمعان بالضيعة» لسيمون الهبر الذي صنع فيلماً بكامله عن رغبة عمّه العزلة في قرية صغيرة ثم فيلماً آخر هو «الحوض الخامس» حول ذكريات والده عن الحرب، وذلك من بين أفلام عديدة أخرى.
لا علاقة بإختيار الشخص الذي ينوي المخرج التسجيلي تحقيق فيلم عنه (جزئياً أو كلياً) بقيمة الفيلم أو مستواه. لكن له علاقة إما بجدوى هذا الإختيار على صعيدي الموضوع والمفاد النهائي، وإما بما يستطيع توفيره من خصائص وحالات وجدانية تبرر مثل هذا الإختيار.
هنا تتفاوت قيمة الأفلام بعضها عن بعض. لا يكفي أن يسعى المخرج لتوثيق مرحلة في حياة قريب له وربطها بمحيط عام بل عليه أن يبرر إختياره بما يتجاوز الحاجة الخاصّـة لاستنطاق قريبه. هذه الحاجة نجدها متوفّرة مثلاً في فيلم «فدائي» لدامين عنوري الذي يتحدّث عن مناضل جزائري أسمه محمد الهادي بندودا هو قريب للمخرج الشاب) الذي كان فتى صغيراً عندما اندلعت الثورة الجزائرية وأخذ يشهد استبداد القوّات الفرنسية وقتلهم للأبرياء: “لم تكن فرنسا قادرة على الوصول إلى أعضاء جيش التحرير الجزائري فقبضوا وعذّبوا وقتلوا أفراداً عاديين إنتقاماً”.
يوضّح المخرج بعض ما مرّ به محمد الهادي وما يتلوه من ذكريات. يصوّر الأماكن الصحيحة ويعتمد كلّيـاً على تعليق الرجل المستمر وذكرياته فيما عايشه. ينتقل إلى المواقع ذاتها (قرى، بيوت سكنية، مبنى استخدم كمركز إعتقال وتعذيب) مع القليل من المشاهد التوثيقية المأخوذة من مصادر أخبارية او تسجيلات محفوظة من الخمسينات. خلال ذلك يكشف الفيلم هذا القدر الشخصي من التاريخ متمتّعاً بذاكرة رجل يريد أن يدلي بشهادته على كبر. الكاميرا لا تعرف الا متابعة الرجل وملاحقة أقواله ومحاولة التعبير عنها عبر إعادة تمثيل المشاهد. المخرج الشاب ينجح في إقامة علاقة حانية بين موضوعه وبين أولئك الذين لا زالوا يتذكّرون التضحيات الكبيرة التي أقدم عليها الشعب الجزائري في سبيل إستقلاله.

المناسبة مبررة تماماً أيضاً في فيلم ديغول عيد «شو صار» (2010). فيلم لبناني حول المخرج الذي يعود إلى لبنان في سنة تحقيق الفيلم ليبحث عمن تكون الجهة التي قتلت عمّـه. محاولته لفهم ما حدث تدلف به إلى كابوس يود الجميع نسيانه بمن فيهم الأمن العام اللبناني الذي أمر بمنع الفيلم من العرض.
لكن في «الحوض الخامس» لسيمون الهبر (2011) يضعف التبرير دقيقة وراء دقيقة خلال عرض هذا الفيلم الذي يتناول الحوض الخامس من ميناء بيروت المليء بالشاحنات والبضائع وبالرجال الجالسين مع ذكرياتهم حول سنوات الحرب حين كانوا يعملون هنا. هذا الحديث شيّق وفيه ما يضفي بعض المعلومات الجديدة حول كيف تقاسمت الفئات المتحاربة الصادر والوارد على طريقة “حكلّـي تحكّـلك” كما قال أحد المستذكرين. لكن النصف الثاني من الفيلم هو عن والد المخرج الذي يقود سيارة تاكسي مرسيدس ويفتح نافذته الخاصة على ذكريات الحرب. طبعاً لا أحد يقول كل شيء، وربما لا أحد يستطيع. هناك حذر تحت الكلمات إلى أن يأتي دور بيروتي يروي ما حدث له مع الجماعات المسلّـحة فيرفع مستوى الترفيه متعاملاً، على نحو مباشر، مع موضوع الفيلم. لكن كلام الأب عام وقصصه ليست ذات أهمية خارج نطاقها العائلي بالإضافة إلى أنه لا ينضوي على شيء يُـذكر يخص الحوض الخامس او ميناء بيروت البحري مطلقاً.
وفي حين أجلس المخرج عمّـار البيك والدته المسنّـة أمام الكاميرا وعـذّبها، ونحن، بما لم يكن يستحق عناءها جالسة هناك متذمّرة من إبنها الذي تركها أمام الكاميرا وراح “يدخّـن سيغارة” وذلك في فيلمه «أسبرين ورصاصة»، نجد المخرج رامي نيحاوي يوظّف حضور والدته في محاولة إستقراء قراراتها في فترة نشطة من العمل السياسي اللبناني، تلك التي سبقت الحرب الأهلية. فوالدته المسيحية نوال أعجبت بعلمانية مسلم أسمه مصطفى نيحاوي وتزوّجت منه رغم معارضة أهلها الشديدة. كذلك أمت الحزب الشيوعي اللبناني وأصبحت عضوة فيه. وهي بدورها أعادت التفكير ووجدت أنها غير راضية عن تلك الخطوة فانسحبت: “إكتشفتُ أن الممارسات لم تكن بمستوى الأفكار” كما تقول لإبنها رامي وهو يصوّرها في مقابلة تؤلّف معظم الفيلم وتضعها وحجارة منزل جبلي أمام الكاميرا في مكاشفة تسبر الأم غورها بلا خوف.
هناك أفلام أخرى لم يرد ذكرها لموضوع يستحق بحثـاً أوفى وهو ما يتطلّب إعادة مشاهدة هذه الأفلام مرصوفة واحداً تلو الآخر، من بينها فيلم داليا فتح الله «كاوبوي بيروت» وفيلم أحمد غصين «أبي لا يزال شيوعياً» كما فيلم زينة صفير «بيروت عالموس» وفيلم إيليان الراهب «هيدا لبنان».