غزة عطشى للسينما

تَفاعُل الجمهور وازدحامه بمئات الشباب والفتيات في قاعة رشاد الشوا، كان الحدث الأهم في مهرجانيّ السينما اللذيّن شهدتهما القاعة مؤخرًا. الأول مهرجان “أفلام بعيون النساء” الذي نظمه مركز شؤون المرأة في الثاني والثالث من أكتوبر، والثاني “مهرجان شاشات التاسع” الذي نظمته مؤسسة شاشات في الرابع والعشرين من الشهر ذاته.
“مُخلفات” شاشات!
قدم مهرجان شاشات سبعة أفلام من الضفة الغربية وقطاع غزة وكان عنوان الدورة التاسعة لهذا العام “مُخلَّفات” أي استغلال كل ما يتركه المجتمع خلفه سواء كان مواد فيزيائية أو عادات وتقاليد، فجاءت الأفلام جديدة في فكرتها وقوية في تنوعها وبها كثير من الحرفية، خاصة وأن المخرجات اللواتي سافرن لأوروبا أكثر من مرة للتدريب تجرأن على المخلفات المجتمعية وقدمن العديد من الأفلام التي تخترق المسكوت عنه، وكان هذا ملحوظاً في الأفلام التي خرجت من غزة وأثارت تصفيق وهتافات الجمهور أكثر من مرة.
ففيلم “منشر غسيلو” للمخرجتين آلاء الدسوقي وأريج أبو عيد ومدته عشرة دقائق يتكلم عن استلاب المرأة لخياراتها في ارتداء الملابس فكانت المشاهد الرئيسية تتنقل بين بطلة العمل أثناء ارتدائها الجينز لتخرج فتصدمها التحرشات اللفظية لترجع وترتدي قميصا أوسع فتخرج وتلاقي ردة الفعل ذاتها، وهكذا إلى أن تصل في النهاية إلى ارتداء العباءة والنقاب فتجد الشيء ذاته من المنغصات والتحرشات.
الجديد في الفيلم أن كل مشاهد التحرش كانت من الرسوم المتحركة والتي صممها مركز زيتون للرسوم المتحركة، ربما لصعوبة تصويرها في مجتمع محافظ كقطاع غزة، في حين كان حيرة الفتاة أمام خزانة ملابسها تصوير حي، وكان الفيلم ابداعيا يدمج بين التصوير الحي والأنيميشن، وإن كانت مشاهد الرسوم المتحركة أكثر حيوية من التصوير الواقعي، إلا أن هذا لم يحد من تجاوب الجمهور مع الفيلم إلى درجة كبيرة خاصة مع عبارات المعاكسات التي كان يلقيها الذكور، لتشعر أن الحجاب في المجتمعات المحافظة تقدمه أحيانا المرأة كرشوة اجتماعية لتأمن نفسها من التحرشات والنميمة، وينتهي الفيلم بإلقاء الفتاة لغطاء رأسها في الهواء وهي الرسالة القوية التي أثارت بعض تمتمات الحاضرين.
الفيلم الآخر الذي جاء مغايرا للمسار الذي اتخذته الأفلام في الحديث عن مشاكل المرأة مع مُخلفات المجتمع وهو فيلم “آن جي/كوز” للمخرجة ريهام الغزالي يتحدث عن الشاب حمزة الذي يخوض رحلة طويلة بين مؤسسات المجتمع المدني الـ”آن جي أوز” ولا يجد وظيفة، بل تتجمع أوراق سيرته الذاتية فوق غيرها من الملفات وتُلقى بإهمال، فيجد بالصدفة أوراق سيرته الذاتية عند بائع ذرة على شاطئ بحر يستخدمها في لف أكواز الذرة.
والفيلم الذي لا يوجد به أي عنصر نسائي سوى مخرجته كان مبدعاً باستخدامه الرمزية، فكان القطع واضحا والاختصار في المونتاج بحيث لم يشبع المشاهد الذي كان ينتظر حوارا طويلاً عن احوال الشباب ومصاعب حياتهم، رغم أن الممثلين لهم تجارب سابقة، وكان بإمكانهم الخوض في مشاهد درامية أكثر من الفنتازيا، وهم حمزة الصفطاوي وهيثم زيدية وأحمد فياض وسليمان النواتي، وقد حقق الفيلم توازنا في اعطاء الرجل حقه في خضم الأفلام النسوية بالمهرجان.
في الفيلم الأخير “على الفرازة يما” شعر المشاهد أن ما يحتاجه في فيلم ريهام الغزالي من مشاهد وحوارات أشبعته اياه المخرجة منى مطير ليمتد فيلمها الروائي إلى تسعة دقائق في مشاهد طويلة وشيقة وباللكنة المحلية مصورا الواقع والانتقادات المجتمعية لعلاقة الشاب والفتاة.
ويحكي الفيلم قصة شاب مغرور يتسلى بالهاتف مع فتاة اسمها “سوسو”، ولا يسمح لشقيقته بأن تسمع مكالماته ويعاملها كأنها خادمة في حين أن شقيقته تنتقده طوال الوقت ولا ترضى بدور الخنوع، ويخوض الفيلم العلاقات بعمق وفي وقت محدود دون تنظير بل في حوار واقعي ساخر ضجت القاعة على اثره بالانفعال والضحك.

أيضا يركز الفيلم على الأم التي تقوم بدورها الفنانة ايناس السقا وتعاملها مع ابنها بشكل منحاز، لتعده بأن تزوجه الفتاة التي يتمناها، فيشترط أن تكون ذات شعر أشقر وعينين ملونتين ولم تدخل الجامعة لأنه لا يريد فتاة تعانده، بل وبحسب كلامه ” بدي أربيها عندي”.
وبالفعل حين تتم الخطوبة إلى الفتاة التي اختارتها والدته يكتشف أن التي خطبها وترتدي عدسات لاصقة هي نفسها “سوسو”، وهنا تضج القاعة بالضحك والتصفيق، ويخرج الجميع وهو يتحدث عن سوسو، فالفيلم الناجح لا ينتهي بإطفاء الشاشة.
ورغم أن هذا الفيلم غارق في المحلية ومن الصعب تقديمه في مهرجانات خارجية كفيلمي “منشر غسيلو” و”أن جي/كوز” ولكنه يبقى الاكثر شعبية، وتقول مخرجته “منى مطير” للجزيرة الوثائقية” انه فيلمي الروائي الأول، وصدمني بقدر ما أفرحني تفاعل الناس هنا، وكل ما أستطيع قوله أن سبب النجاح الموهبة ثم اهتمام شاشات بنا كمخرجات”.
بدوره يقول المخرج عبد السلام شحادة الذي أِشرف فنيا على العديد من الأفلام المعروضة، وألقى في المهرجان كلمة “شاشات” أن ما يميز عمل شاشات في المهرجانات والأفلام أنها تعتبر أن سينما المرأة هي سينما المجتمع ولا تخص فقط المرأة أو النخبة المثقفة، وانه يربط بين شطري الوطن في الضفة وغزة، ويركز على بناء جمهور فلسطيني للفيلم عبر تشجيع الحوار بين المتلقي وصانع الفيلم.

مهرجان بعيون النساء
أما مهرجان “بعيون النساء” لمركز شؤون المرأة فقد تميز أنه قدم أفلاماً من غزة والضفة والدول العربية وبريطانيا وأوروبا، لينعش أجواء غزة الراكدة التي لا توجد بها أية صالات سينماـ وكان المهرجان ملتقىً سينمائياً ثقافياً واجتماعياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى على مدار يومين استمرت فيها العروض لساعات المساء الأولى.
وقدم مجموعة من الأفلام الجريئة التي تخوض في الخطوط الحمراء والقضايا المسكوت عنها مثل أفلام ” طرقات” من غزة، “عشاء ” من البحرين، “الجن” من الجزائر، ليأتي الفيلم الغزي الثالث بعنوان “بقعة حمراء” ويفجر جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي لمدة أسابيع، بين مؤيد ومعارض ينكر على حكومة حماس السماح بعرضه، على الرغم من أن دقائق الفيلم الخمسة اعتمدت على الايحاء الصامت لتصوير ليلة الزفاف وانتقاد كونها اختبار للمرأة.
وكانت الامكانيات الفنية للأفلام المحلية أقل من الأفلام الأخرى العربية والدولية إلا أن هذا لم يمنع رئيسة المهرجان المخرجة اعتماد وشح من الدفاع بشدة عن أفلام المهرجان لتحميها من المنع أمام لجنة المشاهدة من الحكومة، خاصة مع وجود انتقادات على الأفلام المقدمة من غزة.
بدورها تقول المخرجة نور الحلبي وإحدى القائمات على المهرجان للجزيرة الوثائقية “ان صناعة الفيلم الفلسطيني خاصة بصبغة نسوية ليس ضربا من الخيال وليس مستحيلا في غزة، كما أنه ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض منا، إنه جهاد كما بالبندقية والحجر، إنها لحظات تعب وجهد على الورق وخلف الكاميرا ومعارك في الشارع مع من لا يتقبل المرأة كمصورة ومخرجة”.