سجون “عالم البحر”
أمستردام – محمد موسى
الى جانب الأفلام التسجيلية الموسيقية، والتي جذبت جمهوراً غفيراً، كان في معظمه من المعجبين بالفرق والمطربين، الذين تناولتهم تلك الأفلام، يقترب الفيلم التسجيلي “بلاكفيش” للمخرجة غابرييلا كوبريثوايت، لأن يتصدر مجموعة الأفلام التسجيلية التي جذبت الجمهور الأكبر لهذا العام، عند عرضها تجارياً في الصالات السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الاوربية ( حصد الفيلم على ما يقارب 2 مليوني دولار من عروضه الأمريكية فقط). الفيلم ينتمي الى مجموعة الأفلام التسجيلية، التي تُقدم وتكشف موضوعات مجهولة للكثيرين، وتذهب الى خطوة أبعد مما يصله الإعلام التقليدي، عندما يتناول القضايا ذاتها، لتُعيد هذه الأفلام تقليب الحقائق مجدداُ، مسلطة الضوء على خلفيات الموضوعات التاريخية والنفسيّة، ووضعها في إطار أوسع، ضمن معالجة فيلمية تحقيقية تشويقية.
يبدأ فيلم ” بلاكفيش ” بمشاهد بطيئة حِلميّة، مصورة من تحت الماء، يظهر فيها بشر يلهون مع حيتان ذكية. مابدا إنه عرضاً فنياً مُحكم التفاصيل، سينقلب في المشاهد الإفتتاحية ذاتها الى كوابيس، عندما يتمرد الحوت على مدربيه، الفيلم سيعرض مشاهد حقيقية إرشيفية مُرعبة بسرعتها وقسوتها لحوادث من العشرين عاماً الأخيرة. هذه البداية تفصح لحد كبير عن موضوعة الفيلم وإتجاه، هو عن علاقة الإنسان، ممثلاً هنا بالعاملين في شركة “عالم البحر” للترفيه الأمريكية العملاقة، والحيتان (أغلبها ينتمي الى عائلة الدلافين)، التي جلبت من البحار الواسعة، ووضعت في مسابح صغيرة، لترفيه أطفال وبالغون، يقصدون المسارح المائية لشركة “عالم البحر” والمتوزعة في عدة ولايات ومدن في الولايات المتحدة الامريكية.

يرتكز الفيلم على شهادات مدربين ومدربات سابقين، عملوا لفترات متفاوتة في شركة عالم البحر. هذه الشهادات ستتحول، وبسبب رفض شركة “عالم البحر” التعامل نهائياً مع الفيلم التسجيلي، الى النافذة الأهم، للتعرف على ما يجري داخل الشركة ، والتي يُزيّن صورتها الإعلامية براءة مكتسبة من إلفة العروض البحرية المُسليّة التي تقدمها ، والتي تجذب منذ عقود ملايين الأمريكيين. ستتناول تلك الشهادات الكثير من أوجه العلاقة بين المدربين والحيتان التي يتعاملون معها، يكشف معظمها عن حب كبير لتلك الحيتان العملاقة المتسامحة، والتي لا يعرف عنها العنف أبدا ( لم تُسجل أي حالة عنف لحيتان من أنواع الدلافين ضد البشر في البحار الطبيعية حيث تعيش، وكل الحوادث المُسجلة في العالم، حدثت في المسابح الخاصة). ينقل أحد المدربين شهادة مؤثرة للغاية، عن حوت ولدت طفلاً صغيراً في المسبح الذي تعيش فيه، لكن وبسبب ما رأته إدارة شركة عالم البحار، إن وجود الحوت الصغير يؤثر على إداء الإم في العروض الجماهيرية التي تقدمها الأخيرة، قررت نقله الى مكان آخر. ينقل صاحب الشهادة، إن الإم بقت لأشهر تطلق كل ليلة صرخات تشبه عويل نساء مثكولات ، وإن الحيتان الإخرى كانت تتجمع حولها لمواساتها، في فعل يشبه ما يقوم البشر.
لم يواجه الفيلم التسجيلي، على ما يبدو، أي صعوبة في الحصول على مواده الإرشيفية، فالعروض الفنية العامة لشركة عالم البحر و التي يحضرها الآلف كل عام، صورت عن طريق كاميرات وهواتف شخصية عديدة من الجمهور الحاضر، ومن عدة زوايا. فيلم ” بلاكفيش ” سيختار بعضا من تلك المواد المصورة، والمتوفرة على شبكة الإنترنيت، لعرضها ضمن دقائقه. من تلك المواد الفيلمية، هناك مشاهد رعب خاطفة، عندما تمردت حيتان على مدربيها، في فعل عنيف يقطع الأنفاس لإثارته. تختار المخرجة الأمريكية أن لا تعرض مشاهد عنف تفصيلية، من التي تفوق قدرة المشاهد على الإحتمال، فهي تمتنع مثلاً عن عرض اللحظات الأخيرة لحياة مُدربة أمريكية، يظهرها الفيلم تلهو مع أحد الحيتان، قبل أن يتلبد المحيط حولها، عندما بدا إن الحوت يرفض الإستماع الى ما تقوله، وبدء بإظهار بوادر من الرفض. لا تُكمل المخرجة عرض بقية المآساة، لكنها ستعرض بالمقابل، قائمة بالجروح الطويلة والعنيفة التي قتلت المدربة، والتي تضمنها تقرير الوفاة الرسمي، الذي حصل عليه الفيلم.

حتى قبل أن يصل الفيلم الى منتصفه، بدا إنه حقق هدفه في جذب الإنتباه الى موضوعته والغاية التي قصدها، بكشف كواليس عالم الترفيه البحري المغطى بالدماء، والذي يبدو من الخارج مثالياً وجزءاً تقليدياً من الثقافة الأمريكية السعيدة. لا يحتاج الفيلم هنا الى خلاصة تحملها دقائقه الأخيرة، فالشهادات التي قدمها المدربون، والخبراء الذين تحدثوا للفيلم، والمشاهد الفيلمية الإرشيفية التي قدمها، كانت من القوة، للدرجة التي ستجذب معظم المشاهدين الى صفه بعد دقائق قليلة من بدايته. لم تساعد هنا بالطبع أن يرفض ممثلين عن شركة “عالم البحر” الظهور للدفاع عن انفسهم، ليزيد هذا الغياب من فداحة التفاصيل التي تكشفها الوثيقة التسجيلية عن تقاليد العمل والطمع للعاملين في “عالم البحر”، كرفض الشركة مثلاً، إيجاد حل دائم لعنف الحوت، الذي قتل مدربته قبل سنوات، والإصرار على نقله الى مسرح مائي في مدينة إمريكية إخرى بدل سحبه من الخدمة او إرجاعه الى البحر. الفيلم يجمع شهادات عاطفية مع إخرى علميّة عن موضوعته، هذه الشهادات ستصل الى درجة من القوة والتأثير، الى الحد الذي يجعل مشاهدة جمهور مسارح “عالم البحر” المائية في نهاية الفيلم، يثير الإشمئزاز والقرف، فبسبب هذا الجمهور ومتطلباته، تعيش حيوانات عملاقة إليفة حياة مُزرية، تدفعها أحيانا الى التمرد وإصابة او قتل من حولها.