جورج نصر : المجد السينمائي المستتر

فجر يعقوب
اختار المخرج اللبناني جورج نصر( 86 عاماً ) أن يكون لقاءنا الصباحي في مقهى ” بريسك ” المطل على شارع الحمرا الشهير في مدينة بيروت. لم أسأله عن السبب، فقد كان بوسعي أن أخمّن فيه حنيناً جارفاً لصالة السينما التي كانت في هذا المكان. لم يكن صعباً تأويل هذا المعنى في لقاء من هذا النوع، فالرجل الثمانيني الذي أوصل السينما اللبنانية في خمسينيات القرن الماضي إلى مهرجان كان ( 1957 ) بفيلمه ( إلى أين ) يقف اليوم متنهداً وغير متحسر على فرص لم تضع كما يقول، ولكنه لم يكن يريد أن ينجرف وراء الأفلام التي لاتروق له. لاينكر أن فرصة المهرجان العريق التي تكررت معه مرة ثانية في فيلم ( الغريب الصغير ) لم تحمل له السعادة اذ سرعان ما وجد نفسه باحثاً عن صالة لتعرض هذا الفيلم أو ذاك، وقد فهم من أصحاب هذه الصالات في أوقات متأخرة أن أفلامه إن وجدت – أوقاتا لتعرض فيها – غير مرحب فيها، لابل إن منتجين هددوا هذه الصالات بمنع الأفلام عنها إن أقدمت على ذلك. ليس لدى جورج نصر تفسير واضح لذك. وإن كان يميل إلى فرضية أن المنتجين كانوا يبحثون عن المتفرج السهل الذي يجد في الأفلام المصرية والأميركية مبتغاه وضالّته، فيما يقف فيلمه ( إلى أين ) على عتبة الميزانسين الأميركي ” الفاضح ” والممثل الذي يؤدي بطرق مختلفة. يعترف نصر أنه التقى في سفينة متجهة إلى مرسيليا بأحد أصحاب هذه الصالات البيروتية التي ” تمنعت ” حينها عن عرض فيلميه واعترف له بعد مراوغة إن ” المرحلة ” لم تكن مؤاتية لعرض هذه النوعية من الأفلام من دون أن يدرك هذا ” التاجر ” أنه ضوّع اشياء كثيرة على متفرج صامت ومخرج مختلف. خسرت أفلامه تجاريا وكان على نصر أن ينزوي على نفسه كما يقول حياء من المنتج الذي وقف إلى جانبه.

جورج نصر

لايبدو جورج نصر إلا على حاله. كان قد استوطن على فكرة لن يبرحها أبدا، فالسينما بالنسبة له كانت عشقا لايتبدل حتى بأجمل امرأة كما يقول، وبالرغم من تقدمه بالعمر فإنه مايزال يحلم بأن يضع عينه على ” فيزيور ” الكاميرا فمشاريعه كثيرة، ولكن الزمن نفسه يتبدل، وأصبح بوسع من هبّ ودبّ أن يصور فيلما بكاميرا خفيفة. لايريد أن يقارن سمعة تلك الأيام التي لم تكن وردية بالكامل لمخرج تعلم أصول الفن السابع في هوليود وقصد بلاده ولم يلق الترحاب المفترض .لايبحث هنا جورج نصر عن شرعية مغيبة، وليس هو من يقصد أن يعطي أحكاما سينمائية . حتى فيلمه الوثائقي ( لبنان حكاية يرويها الزمن ) كان يعرف في داخله  أن هذه ” خدمة ” سياحية يقدمها للبلد الذي يعيش فيه. أعرف أن هذه النوعية من الأفلام لاترضي ظمأي للسينما التي أريد – يقول نصر مبتسماً- ولكن أجهد نفسي لأقف معها وراء مصوب الكاميرا التي أحب. يضيف متأسياً- لايعني أن تكون هذه الأفلام التي تشرف عليها وزارة السياحة عندنا أنها تجيء بغرض فني بالدرجة الأولى. كلنا يعرف أنها تجيء بدافع ارضاء فضول سياحي قد لايسهم برفع وتيرة التمني بصياغة عهد سينمائي مختلف كنا نصبو إليه في أوقات ماضية.
بالأمس زرته في منزله أيضا في بناء بركات الواقع في منطقة قريطم. كان يجب أن أعبر عنده حدود الذاكرة أيضا كي أحظى بأفلامه ( إلى أين – الغريب الصغير – مطلوب رجل واحد – لبنان يروي الزمن ) على أقراص مدمجة. حتى فيلمه الناطق بالفرنسية لم يسعفه في تللك الآونة كثيرا للعمل في فرنسا. اللقاء على هامش مهرجان ( كان ) مع منتجة فرنسية يهودية أطاح بكثير من الأحلام التي لونّها له السيناريست الفرنسي أندريه تايبه. اقترحت عليه المنتجة أن ينزل إلى مرتبة ” الفجور الفكري ” التي يشرعنها اليوم البعض في لهاثه وراء التمويل الغربي والحضور المبتذل أمام الكاميرات من أجل أن يحظي بالقبول والمباركة بوصفه متحضرا عربيا قابلا للحياة. لم يفده عناده ولكنه كسب نفسه كما يقول. البوابة كانت مشرعة ولكن مفارقة الاسم أيضا حملت له الكثير من اللعنات فقراءة الاسم بالفرنسية جرت عليه غضبا من حيث لايتوقع. خصومة الغرب مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كانت سببا في عدم قبوله هناك أيضا. كانت المقارنة بين كنيته وكنية الزعيم المصري كافية بالتوقف عن التعامل معه. صحيح أن القرار لم يكن معلنا ولكن جورج نصر لمح ذلك في كل الأسئلة والأجوبة التي كان يحظى بها عندما يدور الحديث عن مشروع أو فكرة سينمائية بازغة.
يقف اليوم جورج نصر وراء ارث مضى على توقيعه أكثر من نصف قرن. لايفوته أن يذكّر بأن مؤرخ السينما الكبير جورج سادول كتب عنه. هذا مجد غير مستتر. يعرف نصر ذلك . ولكنه لايقف كثيرا عند التأويل. كل شيء مبيت للحظة التالية. اللحظة التي ينهض فيها من وراء طاولته ليوقع عقدا جديدا بغية تحقيق فيلم جديد.

من فيلم:الى اين؟

مع القطاع الخاص السوري كان له تجربة يتيمة أثمرت فيلم ( مطلوب رجل واحد ) مطلع سبعينات القرن الماضي. الفيلم كان ينوس بين رغبات القطاع الخاص بتملك ثيمة الفيلم التجاري ومقولة من نوع خاص تحيده على الأقل من الوقوع في هذا المطب الذي ميز سينما القطاع الخاص، واستطاع نصر أن يعبر هذا المأزق بحرفية مقبولة، وبخاصة أن المؤسسة العامة للسينما كانت مشاركة في عمليات انتاجه، الأمر الذي أدى إلى خروج شكل فني يمكن أن يشكل بداية لتعاون مضطرد بين القطاعين العام والخاص. لم تتكرر تجربة نصر السورية بالرغم من نجاح الفيلم تجاريا في الصالات. ليس لديه تفسير من أي نوع يمكن الركون إليه، ولكنه فهم أن هذه التجربة لن تقود باتجاه تجربة أخرى. جورج نصر الذي قاد السينما اللبنانية إلى واحد من أعرق المهرجانات السينمائية في تاريخ الفن السابع في فيلمين من أفلامه الثلاثة يقف اليوم ليسأل بلهجة مواطنته نادين لبكي ( وهلأ لوين ) بعد أن عرف من قبل أن سؤال ( إلى أين ) الذي سأله قبل أكثر من نصف قرن لم يكن مطلوبا. أو هو لم يكن مطلوبا في إهاب رجل واحد. يميز اليوم جورج نصر بين لغته، واللغة التي يقبل عليها شباب وشابات هذه الأيام في السينما الجديدة، لكنه أبدا لم يقف يوما على  الناصية من دون ذلك الفيزيور الرمزي الذي ظل يرافقه حتى وهو يقوم على تدريس مادة السينما اليوم في جامعة خاصة هنا وجامعة خاصة هناك.


إعلان