“الرعد يدوي فوق بغداد”.. وثائقي يسرد قصة الاحتلال بعيون العراقيين

في عام 2013، وبعد مرور عشر سنوات على الغزو الأمريكي للعراق، ظهر فيلم “الرعد يدوي فوق بغداد” (Tonnerre roulant sur Bagdad) لمخرجه الفرنسي “جان بيير كريف” المتخصص في الأفلام الوثائقية، وقد استغرق سنوات في إعداد مادته وتصويره.

هذا الفيلم لا يتخذ الوجهة المألوفة التي اتخذتها الأفلام الوثائقية الكثيرة التي ظهرت عن غزو العراق عام 2003، بل يبحر في الاتجاه الآخر، مستطلعا أفكار وآراء الطرف الثاني الذي لم يهتم به أحد من قبل، أي الطرف العراقي من جنود وضباط ومسؤولي أمن ومقربين من حاشية الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وبعض من الكتاب والصحفيين والإعلاميين ممن كانوا يتابعون الأحداث عن كثب، بالإضافة إلى بعض وجهاء المعارضة العراقية في الخارج الذين عادوا إلى العراق مع الغزو (مثل موفق الربيعي)، وكذلك بعض الذين التحقوا بصفوف المسلحين بعد الغزو الأمريكي للعراق، وقد قاموا بالكثير من العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية.

أسئلة الحرب.. خيوط اللعبة التي يتتبعها الفيلم

تتقاطع قصص وشهادات ضيوف الفيلم التي يستعرضون خلالها ما وقع من تطورات درامية خلال عام كامل قبل الغزو وبعده مباشرة، مع شهادات يرويها أيضا للمرة الأولى، عدد من قيادات الجيش الأمريكي وأجهزة الاستخبارات الأمريكية وبعض ضباط العمليات، في بناء محكم يكشف عن موهبة سينمائية كبيرة في قدرتها على السرد، وتوليف تلك الوثائق الحية، وتطعيم الفيلم بعشرات الوثائق المصورة من داخل الموضوع مباشرة، أي من داخل العراق، قبل الحرب وأثناءها وبعدها، في رواية ذات طابع عبثي تراجيدي لكيفية التورط الأمريكي في نزاع عسكري مسلح استمر لسنوات، بعد أن بدأته الولايات المتحدة كنزهة بسيطة يمكن أن تنتهي سريعا.

لقاءات مع عسكريين ومدنيين من عهد صدام للإدلاء بشهاداتهم

ما الأخطاء، وأين وقعت، ومن المسؤول عنها، وما الذي أدت إليه، وكيف كان انعكاس الحرب على المواطن العراقي، ثم كيف حقا جرى تعقب صدام حسين والقبض عليه، وما حقيقة ما وقع إلى أن أعدم؟ كلها خيوط يتابعها الفيلم بكثير من الدقة والرصانة والتشويق أيضا.

نحن أمام فيلم مدهش بمادته الثرية، ببنائه الذي يتخذ طابعا دراميا، الاستعداد والزحف ثم احتلال العراق بعد سقوط بغداد، وبدء العمليات المسلحة التي أنهكت القوات الأمريكية. من الذي دفع الثمن في النهاية، وما الذي حققته الحرب، وماذا فشلت في تحقيقه حتى يومنا هذا؟

هشاشة الجيش وصراعات القيادة.. بلد في انتظار المعجزة

يبدأ الفيلم بالاستعدادات الأمريكية لغزو العراق، ويعرض لقطات من طائرات مروحية من المصورين الذين كانوا يرافقون القوات، من مواقع الزحف، من الاشتباكات التي وقعت، من الدمار الذي حاق بالمدن العراقية، مع شهادات لضباط عراقيين تجمع على تلك الحالة المزرية التي كان قد وصل إليها العراق بسبب الحصار المستمر منذ سنوات، وكيف تدهورت الأحوال المعيشية للضباط العراقيين بسبب تدني رواتبهم، مما أثر سلبيا على رغبتهم في القتال من أجل حماية البلاد.

يقول بسام داود جهاد، قائد إحدى كتائب الدبابات في جيش العراق تحت صدام، إن التصور السائد قبل الحرب كان يتلخص في أن الجنود والضباط كانوا يتخيلون أن دخول القوات الأمريكية إلى العراق سيؤدي إلى حالة من الرخاء يجعل العراقيين يعيشون مثل مواطني دول الخليج.

كان راتب الجندي يبلغ ما يعادل 4 دولارات شهريا، وراتب الضابط لا يكفيه عشرة أيام، ويقول أحد الصحفيين إن الوضع داخل العراق كان يخدم الغزو أكثر مما يخدم الجندي الذي يفترض أن يدافع عن بلده.

قصي صدام، كان اليد اليمنى لوالده

والحقيقة الثانية التي يكشفها الفيلم من شهادات المقربين من النظام والمتعاونين مع صدام من قياداته العسكرية، هي أن صدام حسين -رغم خطاباته التي كان يرغب أن يوصل من خلالها رسالة للعراقيين بالصمود والقوة والثقة في النصر- كان يعلم أن الجيش العراقي سيهزم في المواجهة مع الأمريكيين، لكنه كان يتطلع إلى وقوع معجزة سماوية تنقذ نظامه، وذلك ما قاله حرفيا لأحد القيادات العسكرية المباشرة، وهو الفريق الركن رعد الحمداني من قوات الحرس الجمهوري، وكان يعمل معه عن قرب، ونراه يدلي بشاهدته في الفيلم.

من ناحية أخرى يروي عصام الراوي، أحد قيادات حزب البعث سابقا، كيف كان الحزب يسيطر على كل شبر في العراق، وكان لقادة الحزب الكلمة الأعلى فوق القادة العسكريين في الميدان أيضا، ولكن فوقهم جميعا كانت الكلمة النهائية لقصي صدام حسين، الذي تولى قيادة العمليات بعد بدء الغزو.

“بول بريمر”.. حاكم العراق العسكري المتغطرس

يروي قادة الفرق والألوية الأمريكية التي دخلت العراق شهاداتهم أيضا، حول استعداداتهم ودراستهم العقلية العراقية، وكيفية التعامل مع الشعب العراقي المسلم بعد الاحتلال، وكيف تطورت الأمور في الاتجاه الخطأ بعد وصول “بول بريمر” ليصبح الحاكم الأمريكي للعراق.

” بول بريمر” حاكم العراق الفعلي بعد صدام، تسبب في تدهور شتى مناحي الحياة في العراق

تحول الأمريكيون حينها من قوة تحرير إلى قوة احتلال، كما يقول “غاي غارنر” الذي أوفدته إدارة الرئيس “بوش” في البداية مباشرة إلى العراق كمسؤول عن إعادة الإعمار والغوث الإنساني، لكنها سرعان ما استبعدته بعد عشرة أيام فقط، بعد أن اختلفت رؤيته مع رؤية البيت الأبيض.

بعد رحيل “غارنر” عينت الإدارة بدلا منه “بول بريمر” الذي أهمل استعادة الأمور الحياتية وتشكيل حكومة عراقية، وقام بالخطوة التي يعتبرها كثيرون في الفيلم قرارا كارثيا، أي قرار حل الجيش العراقي، وهو ما أدى إلى تشكيل جماعات العنف المسلح، بعد أن فقد هؤلاء وظائفهم ومصدر عيشهم، كما يقول الشهود العراقيون من الجنود والضباط في الفيلم.

حياة العراق.. ذكريات ما قبل قدوم الغزاة

يعتمد الفيلم على الأبحاث الممتازة التي شملت كل جوانب المسألة العراقية، والحياة في العراق قبل الغزو، والاشتباك بين العسكر والساسة في حزب البعث، وشخصية صدام وحكمه العائلي، وطبيعة العمل في الإعلام العراقي الموجه، وتفكك الجيش وسقوطه بعد الغزو، وكيف تمكنت الولايات المتحدة من شراء قائد الحرس الجمهوري، وكيف أبعدته من المطار في طائرة أمريكية، وشهادة المرأة التي قابلت قصي صدام في المطار قبيل اختفائه مباشرة، وسقوط المطار، والقصور الرئاسية وما كانت تمثل، وشهادات عاملين سابقين فيها، والمأزق الأمريكي بعد الاحتلال، والبحث عن صدام، والإيقاع بالرجل الذي كان يساعده ويقدم له الطعام والحماية، وكيف قُبض عليه ثم حوكم ثم أعدم.

إلى جانب البحث في كل ما يتعلق بجوانب القصة، والاعتماد على التعليق المقتصد للغاية الذي يتدخل بين وقت وآخر للربط بين جوانب القصة المختلفة أو لتوضيح نقطة أو أكثر.

حياة العراقيين كانت في عصر صدام مرتبطة بشخصيته ارتباطا وثيقا

وهناك الجانب البصري المدهش في الفيلم، وهو الحركة، بالانتقال من بغداد الساكنة إلى لحظات الحرب الصاخبة، وانتقالات القوات الأمريكية من لحظة وصولها إلى الكويت إلى احتلالها بغداد، والصور التي يستخدمها المخرج لقادة الجيش وقت وقوع الأحداث، ثم الانتقال إليهم الآن في الزمن المضارع وهم يروون شهاداتهم.

كذلك توثيق دور معارضين لصدام مثل أحمد الجلبي وموفق الربيعي بالصور، والوثائق التسجيلية المصورة لـ”بول بريمر” منذ إعلان الرئيس “بوش” الابن تعيينه ممثلا للولايات المتحدة في العراق إلى ما بعد ذلك الإعلان، مع إلقاء أضواء كافية على شخصيته التي يصفها المعلق بأنها شخصية “تهتم كثيرا بالتفاصيل”، أو أنه رجل مغرم بارتداء الملابس الرسمية، ويتمتع نزعة استعلائية تحكمية، وشهادة الربيعي حول “بريمر” وطريقته في التعامل مع مجلس الحكم المؤقت.

درامية السرد.. قصاصات أرشيفية تصنع ثراء الصورة

يعتمد الخط القصصي في الفيلم على تقديم الشخصيات المتعددة من الجانبين العراقي والأمريكي كأبطال للقصة، من الرئيس الأمريكي إلى أصغر جندي في الجيش العراقي السابق، وذلك قبل الدخول في القصة، ثم أثناء وقوع الحرب، ورواية الأحداث وصولا إلى المصائر النهائية للأبطال حاليا، وكأننا نشهد دراما حقيقية يقوم هؤلاء الممثلون بدورهم فيها، ومنهم من يفقد حياته أيضا- كما يخبرنا التعليق الصوتي المصاحب في النهاية.

ويمكن القول إن شريط الصورة في الفيلم شديد الثراء، فهو لا يعتمد فقط على الشهادات المصورة مع وضع ما يناسب من الصور لتغطية الفواصل بين شهادة وأخرى كما نرى في كثير من الأفلام الوثائقية، بل يقول ببناء كل قسم من الفيلم بناء دقيقا مستندا إلى لقطات حية وصور فوتوغرافية، اعتمادا على وحدة المشهد، بحيث يجعل القصة تتطور وتتصاعد من خلال إيقاع حيوي وشريط صوتي وموسيقي شديدة الحيوية والإثارة.

غير الغزو الأمريكي المشهد العراقي كاملا، فلم يعد العراق يوما كما كان

إنه يستخدم قصاصات الصحف والصور الفوتوغرافية واللقطات المصورة من خطابات صدام واجتماعاته الرسمية، ولقطات نادرة لصدام في حياته بعيدا عن الجانب الرسمي، ولقطات موازية أيضا لابنه قصي، ويستخدم الكثير من الأغاني العراقية الوطنية أو الحزينة التي ترثي الحال، والأهم من هذا كله أنه يقدم صورة دقيقة لحياة المواطنين العاديين في العراق قبل الغزو وبعده.

فيلم “جان بيير كريف” هو درس بليغ في صناعة الفيلم الوثائقي، في الإلمام التام بجوانب الموضوع، من الفكرة إلى السيناريو، في التوصل للشكل النهائي للفيلم من خلال بناء قصصي، فللفيلم إيقاعه، وله لغته الخاصة، بحيث يجعل المشاهد يبقى في مقعده طيلة أكثر من ساعتين، دون أدنى شعور بالملل أو الاكتفاء من كم المعلومات الهائلة التي تتدفق أمامه على الشاشة. وهو أيضا فيلم وثائقي ممتع.


إعلان