وحدة آكل لحوم البشر!

محمد موسى
كُل بضعة سنوات، يَقوم فيلم مُعين بتحريك مياه السينما، وهَّز ثوابت وقناعات، وإطلاق النقاشات مجدداً، في قضايا في الفن السابع، من التي يقارب عُّمر  بعضها عُّمر السينما نفسها، فحضور المادة الدرامية، او المشاهد التي يُعاد تمثيلها في الأفلام التسجيلية، هي موضوعة نالت حصتها الكبيرة من الإهتمام والجدال والرفض، ليس فقط في عقود إنتعاش السينما التسجيلية الأخيرة، بل تعود لسنوات عديدة سابقة، دون أن يحصل هذا الإتجاه في الأفلام على شرعية كاملة، تحوله الى جزء من البناء التقليدي للسينما التسجيلية، فالعديد من مخرجي هذه السينما، فضلوا الإبتعاد عن هذا الإسلوب، حفاظاً على ما اعتبروه “النفس الواقعيّ” في هذه السينما و”الحقيقية”، والتي يجب أن تبقى “خالصّة”، وبعيدة عن الدراما او إعادة  التجسيد، وإن السينما التسجيلية، وبحسب الرافضين لإعادة تمثيل وقائع الماضي في أفلامهم، يجب أن تبقى أمينة مكتفية بما تملك من معلومات وحقائق، ومن دون أن تكون بحاجة الى جنس سينمائي آخر.
فيلم  “ملفات جيفري داهمر” للمخرج الأمريكي كريس جيمس طومسون، الذي يستعيد جزء من حياة المجرم الأمريكي  جيفري داهمر، هو واحد من الأفلام التي من الممكن أن تثير أسئلة عن طبيعة وشكل الدراما التي تقدم ضمن سياق السينما التسجيلية، فالمادة الدرامية التي يقدمها تختلف عن معظم مثيلاتها في الأفلام التسجيلية من السنوات الماضية، ففي حين يُمكن إدراج أغلب  هذه  الأخيرة تحت  فئة الدراما او المشاهد المؤسلبة، بسبب شكلها الفنيّ (الإضاءة المُبالغ في درجتها والشكل العام للمشاهد)، وبناءها الدرامي الفاقع غالباً، يختار فيلم  “ملفات جيفري داهمر” ، شكلاً فنياً جديداً غير مسبوق، فهو ينطلق في مشاهده الدرامية، خارج الإستديو، ليُعيد تَشّكيل سيرة بطل الوثيقة التسجيلية (المجرم جيفري داهمر )، في الأماكن الحقيقية، التي قضى فيها سنوات من حياته ، لاعباً دور المجرم ، ممثل شاب مجهول ينطوي إداءه على فهم لطبيعة تلك المشاهد وأهميتها ضمن الوثيقة التسجيلية. المميز في تلك المشاهد، إنها لم تبدو مشغولة بترتيب زمني عمودي او تفصيلية بحتة، بقدر جهدها لوصف الحالة النفسية لبطل الحكاية وخوائه، والوحدة والإنعزال اللذان غلفا حياته، والذين قاداه لإرتكاب الجرائم المروعة التي قام بها في السنوات القليلة التي سبقت القبض عليه في عام 1991. وإذا كان من الممكن مقارنة المشاهد تلك بمدرسة سينمائية معينة، فهي قريبة الى السينما الفرنسية الجديدة، بتخلصها من قيود “الكمّال” في التنفيذ، في مقابل سعيها للتواصل مع واقع ما، عبر البحث عنه في الشوارع والأمكنة العامة، حيث يتقاطع كل ساعة بشر من كل الأنواع، والتصوير في مواقع حقيقية لنقل نبض الحياة الفعلية.

تسمح الفترة الزمنية الطويلة نسبياً على إنقضاء وقائع قصة الفيلم (ما يقارب العشرين عاماً)، للمشاهد الدرامية فيه بأن تُقدم بطلها الشاب من مسافة غير محكومة بالغضب او إطلاق الأحكام، هي تصوره من الخارج كشاب كتوم مهذب. لوهلة تبدو المشاهد الدرامية تلك وكأنها جزء من الوثيقة التسجيلية، لندرة “الدراما” فيها، وتشابهها مع أفلام تسجيلية تلاحق شخصيات واقعية وهي تمارس طقوسها اليومية. أغلب المشاهد كانت بدون حوارات، خلا المحادثات القصيرة العادية التي كان يتبادلها البطل في تقاطعاته المحدودة مع المحيط الخارجي والتي لا تكشف أسباب نزوعه للجريمة او العاهات النفسية التي كان يملكها. بالتأكيد إن تلك المشاهد الدرامية تستند على شهادات حقيقية، لكنها لن تكون لتملك أهمية تحقيقية او فنيّة مميزة، لولا المقاربة الخاصة للمخرج كريس جيمس طومسون والتي حولها، وبغياب مصدر آخر (بسبب مقتل جيفري داهمر بعد عام من سجنه على أيدي زميل له في الزنزانة)، الى مدخل مفتوح على تأويلات عديدة لعالم المجرم المنحرف الشاب. كما تختلف العلاقة بين المادة التسجيلية والدرامية في فيلم “ملفات جيفري داهمر”، فالأخيرة ليست لسد الفتحات والثغرات، التي تركها غياب الوثائق او المواد الإرشيفية المصورة، بل لتوازيها في الأهمية والتأثير.
تجريب فيلم “ملفات جيفري داهمر” لا يقتصر على المواد الدرامية فيه، هو يتحدى الإتجاه التقليدي الشعبي للوثيقة التسجيلية التاريخية التحقيقية، وخاصة الآتية من الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة إقتصار الشهادات فيه على ثلاث شخصيات فقط، وعدم وقوعه في إغراء البحث عن مواد عاطفية، كشهادات لعوائل الضحايا الذين قتلهم جيفري داهمر، او شهادات للذين عرفوه، كأهل او أصدقاء طفولة. الفيلم إقتصد كثيراً في شرحّ تفاصيل الجرائم، ليمنح بالمقابل مشاهده الدرامية المتميزة مساحة مساوية لتلك، التي أخذتها شهادات جارة لجيفري داهمر، والمحقق الذي حقق معه عند القبض عليه، والطبيب الجنائي الذي كان من أول الواصلين الى شقة المجرم، والتي كانت تضم أجزاءاً من الجثث التي قطعها المجرم بنفسه، وألتهم أجزاء منها في غذائه. في الدقائق الأخيرة فقط من الفيلم، سنتعرف على المجرم الحقيقي، عبر مشاهد وصور من المحكمة العلنية له وقتها، الصور السريعة تلك، ستكون الوحيدة المتوفرة للمجرم، بسبب النهاية المبكرة له في السجن. ينقل الفيلم، عبر مشاهد إرشيفية سيئة الجودة، عمليات إزالة البناية التي كان يعيش فيها جيفري داهمر ، والتي كان يحتفظ بها بجثث ضحاياه. الحكاية التي تكاد يغيبها النسيان، تعود عبر الفيلم لمرة، ربما، تكون الأخيرة، لكن إستعادتها تأتي متأنية مانحة المتفرج فرصة للتفكير بروية ، بعيدة عن حماسة او إغراء الإثارة التي تتضمنها قصة المجرم.


إعلان