أمستردام عاصمة للسينما التسجيلية العالمية
أمستردام – محمد موسى
لا يَتكّل مهرجان “أدفا” الدولي، والذي ينظم سنوياً في مدينة أمستردام الهولندية، على سمعته كأكبر مهرجان للسينما التسجيلية في العالم، وقدرته على جذب عشرات العروض العالمية الأولى والأسماء الكبيرة، هو دائم البحث عن مشاريع وتحديات ومهام جديدة، بعضها يتابع ويتفاعل مع السينما التسجيلية وأسئلتها الإسلوبية والجمالية، وبعضها الآخر له صلة بعلاقته بجمهوره المحلي الهولندي، وإشراكه في النقاش الذي يفتحه المهرجان على قضايا عالمية ومحلية، ومحاولات الوصول إلى ذالك الجمهور عبر قنوات جديدة. من هنا ينضم المتحف السينمائي في المدينة “عين”، والذي إفتتح العام الماضي فقط، الى مجموعة الصالات التي تعرض أفلام هذه الدورة من المهرجان، كما ستدور تحت سقوف هذه البناية المُدهشة التصميم، نقاشات سيطلقها برنامج عرض 8 أفلام روائية تستند على قصص واقعية، مع عدد مماثل من الأفلام التسجيلية التي تُقدم القصص ذاتها، عن الفروقات بين المُتخيل والحقيقي عندما يتعرضان للحدث التاريخي ذاته. ( من الأفلام التي ستعرض فيلم “ميونيخ للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ وفيلم “في يوم ما في سبتمبر” للمخرج ستفين ماكدولاند والذين يستعيدان كلاهما حادثة قتل الرياضيين الإسرائليين على يد جماعة فلسطينية أثناء اولمبياد عام 1972 في مدينة ميونخ الألمانية).

الدورة السادسة والعشرين، التي إنطلقت الأربعاء الماضي وتستمر الى الأول من شهر ديسمبر القادم، ستضم مجموعة من التظاهرات الجديدة، منها واحدة عن أفلام تسجيلية من جنوب شرق آسيا، وهو منطقة لا تحضر تسجيلياً بشكل مكثف في المهرجان، وعلى خلاف مهرجان روتردام الدولي الذي يولي سينماها الروائية أهمية استثنائية. حيث سيعرض 14 فيلماً تسجيلياً من دول: ماليزيا، أندونيسيا، فيتنام وتايلند. وبمناسبة مرور قرن على بداية الحرب العالمية الإولى، والتي تُصادف العام القادم، يُنظم المهرجان، تظاهرة للأفلام التسجيلية التي صورت بين عامي 1917 – 1928 عن موضوعة الحرب، (قام المهرجان بترميم بعض هذه الافلام من أجل المناسبة هذه). وينظم المهرجان لهذا العام ، برنامجاً خاصاً بالأفلام التسجيلية التي تخص فَّن الإلقاء الكوميدي ( الإستاند آب) ، حيث سيعرض في برنامجها سبعة أفلام ، أحدها عن الكوميدي الأمريكي الراحل ريتشارد بريور.
ويواصل المهرجان في دورته الجديدة، تقليداً إرتبط به منذ دورته الإولى، بالإهتمام بدول اوربا الشرقية، والمخاض المتواصل الذي تَّمر هذه الدول. فيعرض هذا العام فيلم “أوكرانيا ليست ماخوراً” للمخرجة كاتي غرين، عن حركة “فيمين” النسوية الصادمّة، وفيلم “بوسي ضد بوتين”، عن فريق “بوسي كات” الموسيقي النسائي الروسي ، والذي حصد شهرة عالمية بعد أن سجنت السلطات الروسية عضواته ، بتهمة الإساءة للمقدسات الوطنية وإهانة الاديان. كما سيُعرض فيلم “خط أنابيب” للمخرج فيتالي مانسكاي، والذي يزور الدول التي يمر عبرها خط الغاز الروسي. هذه الدورة من المهرجان تأتي مع توتر كبير في العلاقات الروسية الهولندية، بسبب الإنتقادات التي وجهتها هولندا لروسيا، لسجل الأخيرة في التعامل مع حقوق الأقليات، والتي تبعها إعتقال دبلوماسي روسي في هولندا بسبب ضربه لأطفاله، وإعتقال هولنديين من المنتمين لمنظمة السلام الأخضر في روسيا مؤخراً.
الإفتتاح من حمص السورية
وكان المهرجان قد أفتتح دورته الجديدة بفيلم “العودة الى حمص” للمخرج السوري المقيم في ألمانيا طلال ديركي. يُسجل الفيلم وعلى مدار عامين، الحرب الطويلة المستمرة في مدينة حمص السورية، والتي طالت معظم المدينة السورية وحولتها الى أنقاض، إذ يبدأ مُهمته التسجيلية من بدايات الثورة السلميّة في عام 2011، وينتهي الى ما قبل أشهر فقط. المخرج الذي صور حوالي 200 ساعة من المواد الفيلمية، يركز على لاعب كرة قدم من المدينة، سيتحول مع إنطلاق الثورة، الى أحد القادة الميدانيين المحليين، إذ سيقود قوة صغيرة من أبناء المدينة، سيقتل قسم كبير منهم، في غضون أشهر التصوير ( الفيلم صور مقتل بعضهم أثناء تغطيته للمعارك).
مانديلا ورامسفيد
في جعبة الدورة السادسة والعشرين 103 فيلماً لم تُعرض في أي مكان في العالم من مجموعة 291 فيلماً تعرضها هذه الدورة. وإذا كان كثير من إهتمام الجمهور والإعلام سيتجه بالعادة الى المسابقات الكبرى في المهرجان، كأفضل فيلم تسجيلي طويل وأفضل فيلم تسجيلي طويل لا يتعدى الساعة، والتظاهرات المعروفة، مثل : “بانوراما” و”الماستر”، و”أفضل ما في المهرجانات”، فإن برامج عروض اخرى في المهرجان بدأت تُكرس سمعتها جماهيرياً ودولياً، مثل : برنامج أفلام الموسيقى او ذاك الذي يخ��ص بالتفاعل المستمر بين الوسائط الإعلامية المختلفة.

الأفلام بدورها تتنوع بشكل كبير، وتكاد تُمثل كل أرجاء المعمورة، وتحمل مواضيعها أبرز مُعضلات العالم. الذي يلفت في هذه الدورة، هو عدد الأفلام التي تركز على شخصيات عامة شهيرة، فيعرض في هذا الخصوص فيلم “رسالة الى نيلسون مانديلا” للمخرج كالو ماتابين، وهو رسالة حب للزعيم الافريقي الغائب عن الوعي منذ أشهر نيلسون مانديلا، وهناك فيلم “المجهول معروف” للمخرج الأمريكي ايرول موريس عن وزير الدفاع الأمريكي الجدليّ السابق دونالد رامسفيلد، كما يُعرض الفيلم المنتظر “كذبة أرمسترونغ” للمخرج أليكس غيبني عن متسابق الدراجات الهوائية الأمريكي المعروف لانس أرمسترونغ، والذي جُرد من معظم ألقابه بعد فضيحة تعاطيه المنشطات. وبعد أن عرضت الدورة الماضية فيلماً تسجيلياً عن الفنان التشكيلي والناشط السياسي الصيني المعروف آي ويوي، يواصل المهرجان توجيه الإهتمام لهذا الفنان، بعرض فيلم جديد عنه في المسابقة الرسمية لأفضل فيلم طويل. الفيلم الجديد يحمل عنوان ” آي ويوي القضية المزيفة ” ومن إخراج أندرياس جونسن.
عودة الى ليبيا
ترافق المخرجة الكندية الشابة راشيل بيث أندرسون، الشابين الليبين حميد وطارق في رحلتهما الى ليبيا، في عز الثورة ضد نظام معمر القذافي قبل عامين. الشابان الذي عاشا أغلب حياتهما في كندا، ولم يقربا يوماً من السلاح، سيكونان في وسط معارك دموية، ستغيرهما، فأحدهما سينضم الى الثوار، فيما فضل الآخر موقع المتفرج على ما يجري. فيلم “أول الساقطين”، والذي يعرض ضمن مسابقة “العمل الأول”، هو واحد من الأفلام القليلة التي تتناول الثورات العربية لهذا العام في “أدفا”، مقارنة بالعام الماضي. من جانبه يوجه المخرج الجزائري عبد النور زحزاح في فيلمه “النهر” والذي يُعرض ضمن برنامج “بانوراما”، تحية لمنطقته في الجزائر، عبر تتبع مسار النهر الذي يقطعها، مستعرضا تاريخها عبر حكايات الناس العاديين من أبناء المنطقة.
وعن معضلات الإندماج لمهاجرين عرب ومسلمين، يعرض في مسابقة الأفلام التسجيلية التي لا يزيد طولها عن ستين دقيقة، فيلم “الأمريكي العربي” للمخرج العراقي الأصل إسامة الشهابي، والذي يطرح أسئلة عن عما يعنيه أن يكون المرء أمريكيا من اصول عربية في هذا الزمان. أسئلة الهوية للمخرج، لها علاقة بمأساة شخصية حّلت على عائلته، فشقيقه مات في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب جرعة زائدة من المخدرات، الأمر فجر أسئلة عن الإنتماء والفقد.