“أن تشعل حربا”.. دماء وأشلاء في صفقات بيع الحرب العراقية للعالم
في ذكرى مرور عشر سنوات على احتلال العراق، قُدّم كثير من الأفلام الوثائقية التي لها صلة بالموضوع، وأكثرها أُنتج في بلدان كانت معنية مباشرة بهذه الحرب، أو مشاركة فيها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والدانمارك.
ومن الدانمارك وقبل نهاية العام (2013) شاهدنا فيلم “أن تُشعل حربا” (The War Campaign) لمخرجه “بوريس بنجامين بيترام”، وفيه يراجع دور قادة بلاده في صنع الأكاذيب التي بررت قيام الحرب، ودور المخابرات الأمريكية في تسريب كثير من المعلومات الملفقة إلى الرأي العام العالمي، تؤكد امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.

وهذا ما سيتضح بطلانه خلال هذا الوثائقي الذي أراده أن يكون شهادة على الدور الذي قامت به حكومة “أندرس فوغ راسموسون” خلال الفترة التي سبقت الحرب وخلالها، واشتراكها في تحالف تزعمه المحافظون الجدد وأثمر عن كارثة راح ضحيتها ألوفٌ من العراقيين، وما زال العراق والمنطقة يعانيان من آثارها.
“يداك ملطختان بالدم”.. مواطن يهين قائد الدانمارك إلى الحرب
في مشهد استهلالي، نرى كيف تحمّل رئيسُ الوزراء الدنماركي “فوغ راسمسون” بدم بارد وأعصاب سياسي محنك؛ الإهانةَ التي تعرض لها من قبل أحد مواطنيه المعارضين للحرب، حين سكب عليه طلاء أحمر اللون، وهو في طريقه إلى مكتبه، بعد أن التقى مجموعة من الصحافيين، وبرر لهم موقف حكومته من المشاركة في التحالف الجديد ضد العراق.

لم يُتعب “راسموسن” نفسه حتى في مسح الطلاء الذي غطى رأسه وملابسه ولم يعبأ البتة بصراخ مواطنه: يداك ملطختان بالدم، ملطختان بدم الأبرياء يا “فوغ”.
إنه مشهد يشي بسلوك رجل براغماتي راهن بكل ما يستطيع على إرضاء بوش وقيادته، على الضد من إرادة قطاع واسع من شعبه المعارض لجر البلاد إلى حرب غير عادلة.
فكرة الحرب.. لعبة روجتها المخابرات إلى الرأي العام
يتابع المخرج “بوريس بنجامين” خفايا التحركات الدبلوماسية والمؤامرات المخابراتية التي أدت إلى تشكيل تحالف دولي مؤيد لـ”بوش” وإدارته، وهو مبني على أساس الحملات الدعائية التي خُطط لها في أقبية سرية، وكان هدفها بيع فكرة الحرب للرأي العام العالمي والمحلي.
سيتبيّن أن نية الحرب كانت مبيّتة منذ وقت طويل، ومدرجة ضمن مشروع سياسي قديم للمحافظين الجدد، كما دونه الوثائقي عبر مجموعة من اللقاءات مع عدد من رجال المخابرات السابقين وصحفيين وخبراء في شؤون السياسة الأمريكية، إلى جانب تحليلات قدمها رجال عملوا مع “راسموسن” خلال الفترة ما بين 2002 وحتى موعد أولى الهجمات الصاروخية على بغداد عام 2003.
شيطنة العراق.. استهداف أول أحجار الدومينو المتساقطة
لقد وجد المحافظون الجدد في أحداث سبتمبر/أيلول 2001 فرصة لتحقيق ما كانوا يحلمون في تحقيقه. فالتخطيط المُبيت لهم في ترحيل الديمقراطية عنوة إلى منطقة الشرق الأوسط كان يمر حسب قناعاتهم عبر البوابة العراقية، وكان إسقاط صدام حسين بالنسبة إليهم بمثابة يمثل إسقاط أولى أحجار الدومينو المتراصفة، لهذا فقد سارعوا بدون مقدمات إلى ربط الأحداث بالعراق، ليس لتورطه فيها وإنما لدوره وموقعه، باعتباره مركزا يمكن الانطلاق منه إلى بقية المنطقة.

لقد تركز هم السياسيين والمخططين العسكريين والاستراتيجيين على تورية لغوية أرادوها أن تترسخ في أذهان العالم مكونة من كلمتين: “العراق وسبتمبر”. أرادوها أن تتكرر، بحيث لا يمكن لأحد التفكير بفصل الاثنين.
وقد اتضح عبر مراجعة دقيقة قام بها الوثائقي لسياسات إدارة “بوش” وقادته، أن مشروع الحرب العراقية كان موجودا عند صقور اليمين المحافظ “ديك تشيني” و”دونالد رامسفيلد” منذ عام 2001، وأنهما ما إن وقعت كارثة برجي نيويورك، حتى شرعا في العمل على شن حملة منهجية، تضخم من قوة النظام العراقي، وتجعله عدوا يهدد الأمن القومي والعالم كله، بما يملكه من أسلحة دمار شامل يستطيع أن يستخدمها ضدهم متى ما أراد.
يورانيوم النيجر.. أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية
لقد سرب قادة الحرب معلومات بأن العراق قد اشترى كميات كبيرة من اليورانيوم من النيجر، ليخصبها في مفاعلاته العملاقة والسرية، وسيتضح كذب هذه الادعاءات من خلال أقوال الدبلوماسي الأمريكي السابق في القارة الأفريقية “جوزيف ويلسون” الذي كلفته الـ”سي آي أي” بالسفر إلى النيجر للتحري في المعلومات الواردة وكتابة تقارير مفصلة عنها.
ما كتبه الدبلوماسي ظل طي الكتمان، لأنه لا يتطابق مع ما سربوه من معلومات، فالنيجر لم تبع للعراق اليورانيوم، ولو فعلت لعلم بها الخبراء الغربيون قبل الأفارقة.
وسيكشف “ميشيل سميث” الصحفي البريطاني المختص بقضايا الدفاع في صحيفة “ديلي تلغراف”، بأنه علم بوجود حملة إعلامية تقودها حكومة “توني بلير” تهدف إلى تسهيل عملية بيع فكرة الحرب على العراق للرأي العام، وتعتمد على حجة عدم تعاون صدام حسين مع المفتشين الدوليين، وهذا ما سيكذبه رئيس البعثة الخاصة بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل السويدي “هانس بليكس”.
تضليل الأمريكيين.. بضاعة رديئة تباع للشعب الدانماركي
كان من أخطر الأدوار التي لعبتها حكومة “راسموسن” أثناء حملة بيع الحرب أنها قبلت لعب دور وسيط في تشكيل التحالف الدولي ضد العراق، باعتبارها كانت تتولى وقتها رئاسة الوحدة الأوروبية، وسيساهم رئيسها في تمرير الأكاذيب المخابراتية الصنع إلى بقية القادة، وسيعزز تحالفا أراد أن يكسب شرعيته من خلال الأمم المتحدة، لكنه فشل رغم كل ذلك.

لهذا راحوا يراهنون على ارتكاب العراق لأخطاء كبيرة في علاقته مع المفتشين الدوليين، توفر قناعة لدى العالم بفشل مهمتهم، وبالتالي البحث عن بديل لنزع أسلحته، وفي هذه الحالة ستكون الحرب وسيلتها الوحيدة.
لقد اشترت حكومة “راسموسن” كل ما باعه الأمريكيون لهم، ثم باعوه لشعبهم وضللوا قطاعات كبيرة منه، حين تجاوزوا بتعمد خبيث كذبةَ امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وهي النقطة الأساسية التي بررت بها أمريكا الحربَ، إضافة إلى نقاط أخرى وهمية، منها عدم التعاون مع المفتشين وإخفاء أسلحته الجرثومية والكيميائية.
ويكشف خبراء دانماركيون كيف تعمد “راسموسن” والمخابرات المحلية نقل كل المعلومات التي كانت تنشرها الصحف الأمريكية والبريطانية، باعتبارها معلومات مخابراتية لا يطالها الشك، وخاصة تلك التي تقول إن العراق قادر على تجهيز أسلحته التدميرية خلال 45 دقيقة فقط من تلقيهم الأوامر، وأنها قادرة على ضرب العالم الغربي بأكمله.
يكشف “بنجامين” في فيلمه التناغم والتنسيق الجيد بين إدارة الحكومة الدانماركية والمخابرات الأمريكية والبريطانية، وكيف أنها لم تألُ جهدا لإقناع الناس بأن المشاركة في الحرب إنما هي نوع من الدفاع عن البلاد والعالم الديمقراطي.
قيادة حلف شمال الأطلسي.. غنائم الحرب العادلة
بعد سنوات من إشعال الحرب، وبعد نهاية مدة حكم “راسموسن”، تراجع كثير من قادة حكومته عن مواقفهم، وشعر كثيرون منهم بأنهم ساهموا في حرب غير عادلة، كما فعل “توني بلير” قبلهم وعدد آخر من رجال المخابرات الأمريكية والبريطانية والدانماركية.
أما “راسموسن” فقد ظل مصرا على موقفه تماما مثل “بوش” و”تشيني”، معتبرا أن الحرب التي شاركت فيها بلاده كانت عادلة، والسبب -كما ظهر فيما بعد- يتعلق بحجم الغنائم الشخصية التي خرج بها، وأهمها أنه بعد انتهاء ولايته مباشرة عُيّن رئيسا لمنظمة حلف الشمال الأطلسي “الناتو”.

ومع هذا، يجر وصفه “الحرب العادلة” إلى سؤال عن مدلولاته: عادلة بالنسبة لمن؟ لمشعليها؟
يصف أحد المحللين الدنماركيين كل ما جرى بأنه كان كذبة بيعت بطرق قذرة، وأن الجميع خسر جراءها وأخطأ فيها، فالأمريكيون أخطأوا، وصدام والبريطانيون والدنماركيون كلهم أخطأوا وخسروا، لكن الخاسر الأكبر منها كان الشعب العراقي دون شك.
وحتى اليوم، وبعد عقد من انتهاء الحرب، لم ينته دمارها ولم تهدأ أوجاعها، وربما لا تهدأ لعقود.