“قبل سقوط الثلج” أو الرحيل صوب الحب
أوديسة جديدة تبدأ من كردستان العراق وتنتهي بأوسلو
عدنان حسين أحمد
اشتملت مسابقة “آفاق جديدة” لمهرجان أبو ظبي السابع على خمسة عشر فيلماً روائياً من بلدان عربية وعالمية مختلفة وكان بينها “قبل سقوط الثلج” لهشام زمان الذي نال جائزة أفضل فيلم من العالم العربي وذلك ” لتصويره التحوّل الداخلي لشاب راسخ في تقاليده من خلال رحلة شخصية، تكشف عن الإنسانية والحُب وتقاطع الحضارات”. كما اشترك هذا الفيلم في مهرجان الفيلم الكوردي الذي انطلق بلندن للفترة من 14 نوفمبر الجاري ولغاية الرابع والعشرين منه وحقق نجاحاً متميزاً يمكن أن نستشفه من خلال ردود فعل الحاضرين الذين استمتعوا بمشاهدة الفيلم وتفاعلوا مع أحداثه وتفاصيله الصغيرة التي تهّم شريحة واسعة الشعب الكوردي على وجه التحديد.
قد يبدو الفيلم الروائي الطويل الأول “قبل سقوط الثلج” للمخرج هشام زمان فيلماً ذا قصة عادية مألوفة في شمال العراق تحديداً أو حتى في وسطه أو جنوبه، ولكن المقاربة الفنية التي اعتمدها المخرج كانت أصيلة وغير مطروقة ضمن حدود التجربة السينمائية العراقية في الأقل. فلقد لجأ المخرج إلى إيقاع الشاب “سِيار” في الحب، وهي ذات التجربة التي أفضت بأخته نرمين إلى أن تهرب مع حبيبها الأول رافضة الزواج القسري الذي فرضته عائلتها عليها حين وافقت على تزويجها من ابن جعفر آغا الذي لم تكن تحبه ولا تتمناه أن يكون زوجها، لذلك عقدت العزم، وقررت الهروب مع حبيبها آزاد الذي استعان بصديق له أوصله إلى إستانبول أول الأمر ثم انتهى به المطاف بالعاصمة النرويجية أوسلو.
معطيات بصرية
لا شك في أن المخرج هشام زمان قد وضعنا وجهاً لوجه أمام التقاليد الاجتماعية القروية في كردستان العراق حيث تقبل الفتيات بالزيجات المُدبرة التي يقترحها الآباء في الأعم الأغلب لأبنائهم وبناتهم، لكن هذا الإجراء قد يصل في كثير من الحالات إلى طرق مسدودة كما هو الحال مع نرمين التي تحب آزاد لكنها وجدت نفسها في خانق ضيّق يجبرها على الزواج من شخص لا تحبه، لذلك قررت القيام بمغامرة الهروب مع حبيبها والذهاب بهذه المجازفة إلى أقصاها، فهي تعرف جيداً أن أخاها “سِيار” سوف يلاحقها بدعم من جعفر آغا الذي يمتلك المال والوجاهة الاجتماعية. لا بد من الإشارة إلى أن هذا الفيلم لا يخرج عن إطار أفلام الطريق المتعارف عليها التي تضع المُشاهِد أمام معطيات بصرية أخاذة متنوعة تبدأ من كردستان العراق، وتمر بإستانبول وبرلين لتنتهي بالعاصمة النرويجية أوسلو التي يغطيها الثلج. يتعرض “سِيار” في إستانبول إلى سرقة محفظته من قبل شابين يافعين، لكننا سنكتشف إثر مطاردته إياهما أن أحدهما بنتاً تُدعى إيفين التي تركها والدها ورحل إلى برلين وتزوج هناك. وحينما تنفتح إيفين على “سِيار” وتطمئن إليه تكشف عن رغبتها في الهروب معه إلى برلين إن هو ساعدها فتظل متسترة بزي الغلمان وتبدأ مغامرة الهروب غير الشرعي الذي يرتبه المهرِّب حيدر فانوس غير أن الأقدار تحاصرهم فيقعون في كمين للشرطة اليونانية وحينما يطلب منهم الضابط أن يبوحوا بأسماء المهرِّبين مقابل إخلاء سبيلهم يمانعون جميعاً، لكنه ما إن يطلب منهم خلع ملابسهم حتى تبدأ إيفين بالبكاء فيضطر “سِيار” إلى الاعتراف بأسماء المهربين لأنه كان حريصاً على شرف إيفين ولا يريد لها أن تُهان أمام الجميع فتعلّقت به أكثر من أي وقت مضى. وفي برلين تأخذه إلى بيت أبيها المتزوج من امرأة ألمانية أنجبت له بنتاً، لكنه ينصحها بالعودة إلى بلدها غير أنها تفقد السيطرة على أعصابها فتترك منزل والدها وتغادره إلى الأبد. لم يتخلَ “سِيار” عن إيفين التي أحبها فيأخذها معه إلى أوسلو كي يتابع عملية الانتقام من شقيقته نرمين التي ألحقت العار بأسرته وأسرة جعفر آغا الذي كان يخطط من بعيد لغسل العار الذي لحق بأسرته وبالقرية كلها، لذلك ظلّ يمده بالمال وبالخبرات التي يمتلكها أعوانه ومناصروه المبثوثون في عدة عواصم أوروبية حيث ينصحه أحدهم وهو يقدّم له المسدس المحشو بالطلقات ألا ينظر في عيني أخته مباشرة كي لا يتردد، وإنما يطلق النار مباشرة إلى رأسها أو عنقها أو قلبها كي يصيب منها مقتلاً.
نهاية مفجعة
ربما تتمركز ذروة أحداث الفيلم في لحظة المواجهة مع شقيقته نرمين التي تهرب ما إن تشاهده، لكنها يلاحقها فتسقط على الأرض المغطاة بالثلوج فيشهر مسدسه، لكنه ينظر في عينيها المتوسلتين فيتراجع في اللحظة الأخيرة متأثراً بقصة حبه مع إيفين التي تركت كل شيئ وجاءت معه إلى أوسلو كي تعيش معه حياة سعيدة.
وما إن تغادر أخته المكان حتى يضغط على زناد السلاح فتنطلق رصاصتان تَسمع دويهما إيفين التي وعدته بأنها تنتظر عودته في المكان المتفق عليه. لم ينسَ المهرِّب ما فعله “سِيار” عند الحدود فقرر الانتقام بواسطة أزلامه المبثوثين في أماكن عدة حيث يتابعه أحدهم ويطعنه بسكين عدة طعنات فيسقط أرضاً ويفارق الحياة. وحينما يدب الشك في قلب إيفين تخرق الاتفاق وتذهب باحثة عنه فتراه من بعيد وهو ساقط على الأرض وغارق في دمائه فتنكّب هي الأخرى على الأرض محتضنة إياه نادبة حظها العاثر الذي أفضى بها إلى هذه النهاية المفجعة التي لم تكن تتمناها لحبيبها “سِيار” الذي مرّ في حياتها مثل ومضة البرق التي تلاشت سريعاً مثل حلم خاطف. لقد بدأ الفيلم بمشهد خطوبة نرمين لابن جعفر آغا، وانتهى بمشهد خطوبة نرجس، شقيقه نرمين من ابن الآغا نفسه في زيجة مدبرة أخرى وكأنها توحي بأن البنت قد تكون مرتبطة بحبيب آخر غير ابن الآغا الذي بدا بليداً، جامداً، لا روح فيه، لكنه يستطيع أن يربك الآخرين بثروته ومنزلته الاجتماعية.
أوديسة عراقية
شبّه بعض النقاد الأجانب هذه الرحلة بالأوديسة التي تبدأ من الشرق وتنتهي نهاية تراجيدية في الغرب الأوروبي. إنها باختصار شديد رحلة نحو الحب، لكنها تشظّت بفعل الحب أيضاً، إلى الموت المفجع الذي لم تتأثر به حبيبته إيفين حسب، وإنما امتدّ هذا التأثير إلى عائلتها برمتها وعلى رأسهم شقيقته الصغرى نرجس التي رأيناها تبكي بحرقة في يوم زفافها لتوحي لنا بأنها لم تكن هي الأخرى راضية بهذا الزواج، لكنها مُجبرة عليه.
لا بد من الإشادة بدور الممثلين الشباب الثلاثة الذين منحوا الفيلم نكهة خاصة مليئة بالعذوبة والصدق وهم طاهر عبدالله طاهر وسوزان إلير وبهار أوزان. كما يجب التنوية بالرؤية الإخراجية الفذة للمخرج هشام زمان الذي قاد أحداث الفيلم إلى مسارات غير متوقعة أضفت على الفيلم قدراً كبيراً من الإدهاش المقترن بعناصر الشد والتشويق والترقب.