مهرجان شورتات ….تعددت الهويات والهم واحد
غزة-تامر فتحي
انتهت فعاليات أسبوع الفيلم القصير “شورتات” الذي استضافه مركز القطان للطفل بغزة ونظمه مسرح وسينماتك القصبة- برام الله. مثل هذه العروض السينمائية هي بمثابة نافذة تطل منها المدينة المحاصرة على العالم الخارجي، لأنه وبحسب كلمة المنظمين فأن “الفن بتفرعاته المختلفة يواكب الحياة، ويرصد حركة الناس، ويقدم لهم ما يمتعهم ويفيدهم، وينمي معارفهم” وغزة في أمس الحاجة لذلك.
سوريا
سوريا كانت حاضرة بقوة في “شورتات”، من خلال ثلاثة أفلام هي “يا بيتي يا بويتاني” و”خطوة بخطوة” و”الكلب”. ففي فيلم الكلب نرى إثنان من السوريين المغتربين يبرران للنظام مذابحه ضد الشعب على أساس أن العنف والقتل هما الرد الأمثل لهذا الحراك الشعبي الذي هو في نظرهما تمرد وفوضى وخيانة ليستيقظا بعد ذلك فيجد كل منهما نفسه وقد وُشم على ظهره اسماء المذبحة واسماء المقتولين. وكأنما هذا العقاب الذي يشبه الفيروس هو جزاء التأييد الذي يكاد يفوق جرم القاتل.
في حين يتقاطع فيلميّ “يا بيتي يا بويتاني” و”خطوة بخطوة” كثيرًا على الرغم من أن الفارق بينهما يزيد عن خمسة وثلاثين عامًا، فما أشبه اليوم بالبارحة. فالأجواء تحت راية النظام أو في ظل الثورة ضد النظام واحدة، جهل وفقر ومرض، ولا وزن للمواطن فالمهم بقاء النظام.
سوريا عام 1977، أشبه بمجتمع الأخ الكبير، كما في رواية جورج أورويل “1984”، مجتمع قمعي يؤهل أفراده خطوة بخطوة على قبول العنف وتقديم فروض الولاء والطاعة والتخلي عن ما هو إنساني بداخلهم، مجتمع يستكشفه بلغة سينمائية رائعة ولامحة أسامة محمد مخرج فيلم “خطوة بخطوة” الذي تم تصويره في عام 1977 ويعد وثيقة سينمائية مهمة. صور من الحياة اليومية في المناطق الريفية في ذلك الوقت حيث التعليم في حده الأدنى، حيث يتغني أهل القرية بالحزب الحاكم وبحافظ الأسد كما يذكرون الله ويمدحون الرسول وأهل بيته، وحيث شباب القرية عليهم الإختيار بين العمل في الأرض مثل أبائهم أو الهجرة إلى المدينة حيث المهن الدونية أو التطوع في الجيش حيث السلطة الفاتنة، نسمع خطب تمجيد العامل في حين تدور الكاميرا على وجوه عمال البناء البؤساء الذين ينتظرون إشارة من المقاول، وعندما يُسأل أحد الشباب المتطوع في الجيش إذا ما كانت لعائلته أو فرد منها آراء مناهضة للحزب فماذا سيفعل فأجاب بأنه سينصحه ويهدده وقد يقتله إن جاءته الأوامر بذلك.
سوريا 2013، يعطي النظام أوامره بالقتل. فالمشهد الممتد من فيلم “خطوة بخطوة” يكتمل في فيلم “يا بيتي يا بويتاني” للمخرج عمرو خيطو حيث نرى ثلاثة أطفال من اللاجئين السوريين في إحدى قرى البقاع الغربي بلبنان حيث يقطن كل منهم مع عائلته في صف من صفوف المدرسة التي افتتحها اهالي القرية للاجئيين. حمامات مشتركة، تسخين المياه بسلك كهربائي، أوضاع إنسانية متردية، نفس الجهل ونفس المرض ونفس الفقر بل زاد عليهم الموت، لكن مع فارق بسيط لكنه جوهري هو أن أحفاد جيل السبعينات تعلموا حفظ الوطن بتفاصيله في ذاكرتهم وأن يلعنوا بشار الأسد، رأس النظام، في أغنياتهم.

سوريا فلسطين
جاء مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينين بسوريا نقطة إلتقاء للهم الفلسطيني والسوري في “شورتات”، وذلك من خلال فيلمي “وجوه المخيم” و”تغطية” للمخرج حسن طنجي. ففيلم “وجوه المخيم” يرصد عن قرب في كليب بصري قصير، لا يتعدى الأربعة دقائق وعلى نغمات أغنية “طير يا هوا” لريم بنا، وجوه الكثير من سكان المخيم، وكأنها تحدق في المشاهدين، لنرى في عفوية وإيجازٍ شديديين القدرة البشرية الهائلة على التصميم والتكيف ومواصلة الحياة من خلال تفاصيل يوم كامل بمخيم اليرموك قبيل قصفه بطائرات الميج في ديسمبر 2012.
إلا أن فيلم “تغطية”، الذي جاءت فكرته من انقطاع تغطية شبكة الجوالات في جميع انحاء المخيم ووجودها فقط في ساحة الوسيم، أخفق كثيرًا في نقل أجواء الحصار الخانق الذي يعيشه المخيم أو في نقل أي موضوع، على الرغم من أن تصوير الفيلم في تلك الأجواء كان بمثابة مغامرة.
فلسطين
ماذا لو أن حل القضية الفلسطينية هو بناء ناطحة سحاب عملاقة يسكنها الفلسطينيون لتكون هي دولتهم؟ هكذا يفترض فيلم Nation Estate أو “عقارات الأمة” للمخرجة لاريسا صنصور حلًا ساخرًا في أجواء من الخيال العلمي للقضية الفلسطينية. وعلى الرغم من البذخ التقني وبراعة تصميم الملابس، إلا أنه ثمة فراغ في المحتوى يصيب المشاهد بالحيرة أهذه رؤية مستقبلية كئيبة أم مزحة خيالية أم أن الفيلم مجرد طموح مخرجة تسعي لامتلاك أدواتها الفنية والتقنية لصنع فيلم خيال علمي يشبه الأفلام الهوليودية.
بتفاصيل مفعمة بالواقعية وبحرفية عالية، يعيدنا فيلم “اسماعيل” للمخرجة نورا الشريف إلى فلسطين عام 1948، إلى جموع المهجرّين الذين تدفعها الجماعات الصهيونية للخروج والشتات، إلى مخيمات اللاجئين حيث قلة الموارد والقهر، وذلك من خلال يوم في حياة الفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط (1930- 2006) حين كان يخرج لبيع “المعمول” في محطة القطار بصحبة شقيقه جمال لكي يعيل أبويه ، ولدى عودته يفاجئ بانه وشقيقه يسيران في حقل للألغام، وبمساعدة احد ابناء المنطقة يتمكنا من إجتياز الخطر المحدق بهما ولكن بعد لحظات عصيبة من الترقب والإثارة. وكأنه لازمًا علينا كي ندرك الحياة بزخمها ومعدن الروح الأصيلة فينا أن نواجه الموت عن قرب. أجادت نورا صنع تفاصيل الفيلم بحرفية عالية بداية من كثافة وإيجاز السيناريو وتصميمات الملابس ومناظر محطة القطار وتقنيات الصوت والصورة لتخرج لنا فيلم روائيًا قصيرًا سيظل بالتأكيد علامة مبهرة في المشهد السينمائي العربي.
تقاطعات الهوية

ثمة بحث عن الهوية في الأفلام المعروضة، بحث يطول المكان والذات والماضي. ففي فيلمها ” العشاء”، تبحث ميس دروزة، المولودة لأب فلسطيني وأم لبنانية والمقيمة منذ الطفولة في عمان بالأردن، في ذاتها وأسرتها وأصدقائها عن هويتها التي تتقاطع فيها موروثات ومشارب ومسارات متعددة سواء من ناحية إمها اللبنانية التي تحلم أن تأخذ أولادها لبيروت أو من ناحية أبيها الفلسطيني المتخم بالحكايات والذكريات الفلسطينية منذ سنوات التهجير، أو من ناحية المكان الذي تتساءل إذا ما كانت تحبه أم لا، أو من ناحية أصدقائها المشتتين مثلها، كل ذلك في أثناء إعدادها لعشاء يجمع الجميع على طاولتها لكنه في النهاية تحترق الوجبة في الفرن. حملت في الفيلم المكونات والوصفات الغذائية، طريقة إعداد الفخذ الضأن بالفرن، وعمل المكدوس، وزيت الزيتون والجبنة النابلسية، دلالات عميقة تماست مع الموروث والهوية.
أما في فيلم سامح الزغبي، العريس الوسيم، فالبحث عن الهوية يأخذ منحى آخر. فسامح المقيم في نيويورك هو وزوجته منال وإبنه، الذي يقرر العودة في إجازة لقريته أسكال، وهي قرية فلسطينية صغيرة من قرى مناطق 48، لضغط على صديقه الأعزب أحمد الذي تجاوز الخامسة والثلاثين كي يتزوج بعد أن يأست أمه من ذلك، إنما جاء في حقيقة الأمر للبحث عن ذاته التي تركها في المكان قبل سفره للولايات المتحدة، فهو يسأل نفسه في الفيلم عما كان سيؤول إليه حاله لو أنه ظل في قريته وتزوج من إحدى فتياتها، يلتقي بأصدقائه القدامى، ويستعرض معهم صوره القديمة، حتى أحمد، صديقه الذي يشبهه في نواح كثير حتى في الشكل الخارجي، يظل امتداد لذات سامح التي بقيت بالقرية.
شعرية ضالة
“يا ناطرين التلج ما عاد بدكن ترجعوا ….صَـــرّخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا” هكذا يصرخ الشاعر في الفدائيين بعد موتهم في فيلم “وحدن”، في مشهد يفترض أنه شعري، غير أن الفيلم يخفق بالإمساك بتلك الشعرية المفترضة سواء شعرية القصيدة التي كتبها الشاعر اللبناني طلال حيدر بعد عملية فدائية فلسطينية وغنتها فيروز، أو شعرية قصة الناشطة الفرنسية فرانسوا كيستمان التي شاركت فدائيين فلسطينين في عملية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي استُشهدت فيها، وقالت في مذاكراتها قبل موتها “يبدو لي أنني أتجه نحو الموت المحقق، بل إنني لأعلم ذلك علم اليقين، وأطلبه ولسوف تكون تلك أجمل ميتة، مثلما هي حياتي هاهنا.. ولو شاء الله أن يقبضني إليه فسأكون أكثر حياة في هذه اللحظة”. وعلى الرغم من أن القصتين مترعتين بالشعر، إلا أن نورما ماركوس مخرجة الفيلم لم تستطع أن تتماهى مع هذا الكم من الشاعرية، فخرج الفيلم فاترًا.
أيضا تخون الشاعرية فيلم “بيت السلحفاة” للمخرج جورج إبراهيم. ففي الفيلم “يافا” بنت المخيم الفلسطيني التي تحب الرسم واستشهد والدها تخرج هي وصديقها (الذي لا نعرف اسمه) للعب في الأحراش إلا أن رصاصة من الرصاصات التي لا نعرف من يطلقها على من، وتتطاير كالذباب من فوق الرؤوس تردي الفتى قتيلًا. الفيلم الذي تتماس أحداثه مع أغنية فيروز الشهيرة “شادي”، جاء سطحيًا ومستهلكًا، ولم تشفع له دلالة السلحفاة وبيتها التي تجسد قدر الفلسطيني الذي يحمل وطنه معه أينما ذهب، في إضفاء العمق المناسب.