الفعل التوثيقي والدور الإعلامي المتصاعد
درويش درويش
قوة الصورة “المتحركة” و”الناطقة” و”الملونة” لا تضاهيها قوة أخرى بين وسائل الإعلام في التعبير و”التبليغ” و”التواصل” أو “التوصيل”.
إذاً كان هذا “القطاع” من قطاعات الإعلام سابقاً أكثر تقييداً من غيره، أكثر مدعاة للتحكم به من قبل السلطة، قياساً بجريدة أو كتاب أو حتى “راديو”، ومن “يقرأ” ومن “يستمع”؟!
فمن الطبيعي وفق هذا السياق أن يكون “الانفلات” الأكبر هوَ من نصيبه أيضاً مع بداية حراك دول الربيع العربي، الكلام هنا عن المادة المصورة بكل أشكالها، الخبرية أو الفنية أو التوثيقية، ولكن و”لقوة” الواقع أيضاً تصدرت المادة “التوثيقية” و”التسجيلية” على وجه الخصوص هذه القائمة من “الأشكال”.
ظهر ذلك بكثافة منذ بداية الحراك في تونس، وبشكل لصيق جداً بالمجريات على الأرض، وتبدى أيضاً في مصر -فيما بعد- وأخذت الصورة تواكب أكثر فأكثر الحدث وتصقل طرائق تناوله، التي ازدادت تنوعاً، ترافق ذلك مع تطور الصراع السياسي عينه متأثراً بمنعرجاته ومدى فتحه “أقنية” جديدة للتوصيل، حتى أن الانترنيت تم قطعه في ثورة 25 يناير، الوسيلة الأقل تحكماً بها من قبل السلطات. سنرى هذا التطور مثلاً في تجارب باسم يوسف وخصوصاً ما اعتمد منها في انتشاره على اليوتيوب.
ثم ومع التغيير الكبير الذي طال حال وسائل الإعلام، ستكتسب المادة الإعلامية المصورة و”الموثقة” أهمية قصوى، بعد أن أعادت الثورات العربية لها الاعتبار بتحريرها من مساراتها السابقة، بوصفها وثيقة غير قابلة للدحض وشهادة سيطلع عليها الرأي العام. ومن جهة أخرى وفي غياب الدولة ومؤسساتها جزئياً أو كلياَ، راحت تزداد أهمية هذه المواد المصورة والطريقة التي تُخرَج بها، حتى ولو لنشرة أخبار، هذا إذا لم نتحدث عن دور “الشكل” في الأفلام التسجيلية ذات الأبعاد الفنية، والمصنوعة ضمن هذا الإطار ولهذا الهدف.

هكذا سنشاهد مثلاً ما أسماه الإعلامي يسري فودة “تقريراً” من الإسكندرية يعرضه في برنامجه التلفزيوني ” آخر كلام” عن حال اللاجئين السوريين، قام به علي شعبان السطوحي من “وحدة التحقيقات الاستقصائية” التابعة “لهذا البرنامج”. ستتداخل في هذه المادة القيم الفنية للمادة التسجيلية مع القيم الأخرى للمادة الخبرية أو الصحفية أو التقريرية بحسب تسمية يسري فودة أو “التحقيقية”. وإذا كان هذا هو حال المادة الصحفية الحديثة بشكل عام، إلا أننا سنجد هنا إيغالاً أكبر في هذا التراكب والدمج. ومن جهة أخرى سيقوم هذا التقرير بمهام تصبح هنا أكثر جوهرية في ظل غياب الدولة بمعناها الناضج كما أشرنا آنفاً. فسنرى الكاميرا تلاحق محافظ الإسكندرية المرتبك تحضيراً “لمثوله” أمام الكاميرا. وستسجل الكاميرا ويُظهِرُ “التقريرُ” ما قاله المحافظ بعد إيقاف التصوير “رسمياً”.
الناطق الرسمي باسم الخارجية المصرية أيضاً، أهم ما قاله عن موضوع اللاجئين عبارة سجلتها الكاميرا قبل اللقاء “رسمياً”: “والله ما عارف إيه اللي خلاني وافقت!” ويقصد هنا موافقته على إجراء المقابلة. سنستمع إلى اتصال هاتفي مسجل “طريف” لمسؤول آخر هو مدير إدارة الإعلام بمديرية أمن الإسكندرية “خالد العزازي” سنورده هنا لما له من دلالات بالغة الأهمية بما يتعلق بموضوعنا: “ما خلاص السوريين خلصنا منهم واترحلوا من شهر؟ خلاص في إيه تاني؟! عايزين حاجة جديدة، حاجة طازة الناس تنبسط منها يا علي. هوَة الهدف من الإعلام هدف إيجابي ولا هدف فاضي؟! نِفْضَل نتكلم في امبارح وأول!”.
يبدو هذا “التقرير” عينة من “إعلامٍ مضاد” لإعلامٍ “رسمي” يحاول إعادة السيطرة، يتبدى ذلك بشكل مباشر باستخدامه مقاطع من برامج في محطات تلفزيونية أخرى. وهوَ أيضاً سيتجاوز مهمته التقريرية المباشرة فيلتقي برجل -خارج الموضوع- هو مدير الإذاعة المصرية السابق، ليتحدث عن سوريا النصف الآخر لمصر ويستذكر العدوان الثلاثي وكيف أنه وعند قصف الإذاعة المصرية سمع الجمهور العربي “هنا القاهرة” تذاع من إذاعة دمشق. وقصص أخرى عن عبد الناصر والسوريين، بمرافقة مشاهد وثائقية قديمة، كمحاولة لتجسيد المسألة، والتأثير باتجاه معين على المتلقي من جهة أخرى.
كما أن بثه في مرحلة الصراع السياسي الصعب، التي تمر بها مصر، يكسبه أهمية خاصة على عدة أصعدة، أقلها دلالات تبتعد بنا كل البعد عن توصيف دور الإعلام بشكله الآفل، المحيَّد المتحكَّم به، الخالي من أي قضية إنسانية أو لها علاقة بالشأن العام، إعلام للتسلية وإضاعة الوقت، كما عبر عنه “مدير إدارة الإعلام بمديرية أمن الإسكندرية”.