الموهبة وحدها لا تكفي للنجاح

أمستردام – محمد موسى
بعد أن عُرض قبل إسبوعين في الدورة الأخيرة لمهرجان أدفا الدولي للسينما التسجيلية في أمستردام، وصل فيلم “عشرون قدماً عن النجومية” للمخرج الأمريكي مورغان نيفيل سريعاً للصالات السينمائية في هولندا وفرنسا، إذ بدأت عروضه أخيراً.الفيلم التسجيلي نال على إهتمام إعلامي مُهم عند عرضه في المهرجان الهولندي، بسبب موضوعته التي يتم تناولها للمرة الأولى تسجيلياً، وأيضا لنجاحه في حشد مجموعة من نجوم غناء من الصف الأول، والذين قدموا شهادات شخصية مؤثرة عن زميلاتهم وزملائهم من مغني الكورال، المجهولين لنا نحن الجمهور، رغم دور هؤلاء المهم في تطوير أنواع موسيقية مُعينة، وإغنائها ورفدها بعناصر جماليّة فريدة.
يَّملك الفيلم التسجيلي ” عشرون قدماً عن النجومية ” مقومات الفيلم الجماهيري، الأمر الذي يُفسر نجاحه الحالي في الصالات السينمائية، فهو يستعيد عدة حقبات موسيقية من الستين عاماً الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. من التي لازالت تملك جمهورها العريض. كذلك يمزج الفيلم بين الشخصي والعام عبر تقديمه تفاصيل من حيوات وشقاء مغنيات كورال، ضمن إطار زمني وإجتماعي واسع. فالطريق الذي قطعه الرواد في هذا الحقل من الغناء، مرَّ عِبر مَطبات العصر التاريخية المعروفة. اذ واجه مغنوا الكورال السود الصعوبات ذاتها التي عانى منها نجوم الغناء السود الأمريكيين، كرفض شركات الموسيقى الكبيرة الإستعانة بهم في البدايات، وإقتصار حضورهم على ولايات أمريكية معينة، من التي تسكنها نسبة كبيرة من الأمريكيين من الأصول الأفريقية.
قيود عقد الخمسينات وتحفظاته، والذي كان في روحه إمتداداً للعصور الذي سبقته، ستتهشم تدريجيا مع حلول العقد الذي أعقبه، والذي حمل بشارات التغيير والمواساة والتمرد على السلطات التقليدية المُهيمنة. في عقد الستينات سيتعرف الجمهور الواسع في الولايات المتحدة الأمريكية على أنواع جديدة من الموسيقى، من التي كانت حتى ذلك الوقت، تُعد موسيقى خاصة بمجموعات عرقية معينة، وتتوجه الى جمهور محدود. يجمع الفيلم التسجيلي رائدات ذلك العصر من مغنيات الكورال، هن الآن في عقدهن السابع، لكن مازلن يمتلكن بعضاً من توهج تلك السنوات. بعض الأسماء المعروفة من ذلك الزمان سيجتمعن بطلب من الفيلم، وبعد عقود طويلة من الإفتراق. أغلبهن تقاعدن، ليس فقط بسبب تقدم العمر، لكن أيضا بسبب تغيير مفهوم الغناء خلف المطرب، ووصوله لطريق مسدود مع نهاية عقد الستينات. لكن لن تمِّر فترة طويلة بعد ذلك، قبل أن تظهر وجوه شابة جديدة، ستجد من يرعاها ويهتم بها، وخاصة من مغني الروك الأنكليز، من الذين تأثروا بالموسيقى التي قدمها أمريكيين من إصول أفريقية. نجوم الروك الأنكليز تعاملوا مع مغنيات الكورال بدون أي تحفظات إجتماعية او تاريخية. بعض من نجوم الروك المعروفين، والذي يُعرف عن بعضهم طلاتهم الإعلامية النادرة (ميك جاغر و بروس سبرينغستين من الذين وافقوا على الظهور في الفيلم على سبيل المثال)، سيقدمون شهادت مُغلفة بالحب عن زميلاتهم، واللواتي ساهمن في إضافة الكثير من الروح للموسيقى التي قدموها في سنوات تألقهم.

مع السرد التاريخي لتاريخ مغنيات الكورال السود، سيُركز الفيلم على مغنتين كورال معروفتين هما : دارلين لوف و ليزا فيشر، الأولى بدأت حياتها كمغنية كورال عادية، لكن صوتها وإداءها سيلفت كثيرين، وليختارها أبرز نجوم غناء نهايات الستينات لتغني خلفهم في حفلاتهم وتسجيلاتهم لإلبوماتهم. دارلين ستقدم ألبومات غنائية خاصة في منتصف عقد السبعينات، لكنها لن تحقق أبداً النجاح الشعبي الكبير، وتكتفي حالياً بجمهور يعرفها ويتابعها في حفلاتها. أما ليزا فيشر، فلا تقل موهبتها عن زميلتها، لكنها إختارت أن تبقى مُغنية صفوف خلفية، مُستمتعة بين حين وآخر بفرص يوفرها لها مغنيين معروفين للغناء معهم في المقدمة، لتبرز كل مرة موهبة وتدرج وتجريب  صوتي مُبهر.
الموضوعة الأساسية في ” عشرون قدماً عن النجومية “، والتي بدت إنها تخص فئة مهملة من المطربين والمطربات، ستتفرع وتتعقد  بعد الدقائق العشر الإولى من الفيلم، ليمر هذا الأخير على عدة  قضايا حساسة كالعنصرية ضد السود في أمريكيا، ومكانة المرأة في الصناعة الموسيقية، والحظ في تحقيق النجاح، وتطور الصناعة الموسيقية في الولايات المتحدة الأمريكية في نصف القرن الأخير بشكل عام، بل إن الفيلم يصل في خاتمته الى عصرنا الحالي، مستشرفاً مستقبل مغنيات ومغني الصفوف الخلفية اليوم، وسط ضباب الصناعة الموسيقية، التي تعاني نفسها ومنذ سنوات من تغييرات جوهرية. هذا كله لم يكن ليظهر في الفيلم بالشكل المتوازن والمُعمق، بدون عمليات بحث، إستغرقت حتما أوقاتاً طويلة، لتكون المحصلة وثيقة تسجيلية ربطت بين أحداث تاريخية وشخصية بسلاسة وتفهم، دون أن يغفل الفيلم “الموسيقى” ذاتها، والتي تم إستعادتها في الفيلم، عبر إغنيات مؤثرة من ذلك الزمن، بعضها منسيّ، تكتنز ألم وتوق أمريكيين من إصول أفريقية لسَّرد قصصاً من حياتهم وتاريخهم المؤلم وأحلامهم للمستقبل.


إعلان